بدأت الإيرلندية آيريس مردوك حياتها، بكتاب عن سارتر بعنوان «الرومانسي العقلاني». وسواء صحت هذه الألقاب، أم أنه لم يحالفها الحظ، فقد انطلقت من قناعة تشبه المسلمات أو البديهيات، ومفادها أن سارتر في «الغثيان» ثم في قصته الطويلة «الجدار» وجودي بامتياز. فقد «حصر اهتمامه بمتابعة الوضع البشري وإدراكه دون أي تدخل منه». وكان «كل شيء مثلما وجد في العالم». وليحقق ذلك استمع لنصيحة زولا بقتل البطل، و»حرص على عرض أسلوب حياة أبطاله فقط».
وكان سارتر قد أكد في عدة مناسبات أن الانطباعات الروائية في أي تخيل فني، تعمل على تشويه الحقيقة، وإنتاج واقع بديل لا علاقة له بوجودنا المجرد. ورأى أن أي فكرة تصدر عن الشخصيات الروائية تخدم هدفا واحدا وهو تدمير الحقيقة. وقد بنى قناعته على أساس أن «الانطباع الفردي للشخصيات الروائية، ينقل تجربة الكاتب وليس حقائق الوجود». وأكد لاحقا أن الوجود ظاهرة – أو فينومينولوجيا بينما إدراكه هو ثقافة نفسية – سيكولوجيا.
غير أن تصفح سرديات سارتر (وهذا يشمل الرواية والمسرح) يذهب باتجاه معاكس تماما. فهو مثل كل الوجوديين لا يقف مكتوف اليدين أمام الواقع، ويحاول تغييره إما بالملاحظة العميقة من داخل التجربة، أو بالمشاركة الوجدانية على حدود التجربة نفسها. وبشكل واضح هو يعزل «الوجود بذاته» عن «الوجود لذاته». ويشبه الأول بصورة الإنسان في المرآة، والثاني بملامحه المفترضة والمتخيلة، بناء على أوهام سابقة وتصورات وإدراكات. ويوضح كل ذلك في قصته المشهورة «الجدار» التي ظهرت في عدة ترجمات وتحت عدة عناوين. فقد واجه بطل القصة الأسير تكهنات عديدة، وتوقع، في الوقت نفسه، أكثر من نهاية لأزمته، لكن كلها كانت تنبع من ذهنه. وكان النشاط الذهني يدور بطريقة لامتناهية حول فكرة غير واضحة، ولذلك شغل نفسه بمرآة افتراضية وقف أمامها وتأمل فيها الاحتمالات التي تهدد مصيره.
ولذلك يمكن أن ترى (كما لاحظت مردوك) «أنه براغماتي ونفعي، يبني علاقاته على أساس تبريري، يتكامل فيه التفكير مع نسق الحياة التجريبية». وغني عن الذكر أن الجدار هنا ليس الموت الذي يعتقد الشرقيون أنه مجرد حجاب، لكنه الحد الفاصل بين حالتين كل واحدة منهما تلغي عكسها، وهما الوجود والعدم. وبتعبير آخر الجدار هنا هو آخر نقطة من قدرتنا على الإدراك المرتبط باختبار مشاعر النوع، وليس مشاعر الذات، ولذلك يوجد تبادل في المنطق، بحيث تصبح الصورة هي الواقع، والأصل هو الحقيقة المتوارية التي تتشكل بالاستجابة لشيئين اثنين هما: الرغبة والتجربة. ويمكن أن تجد مثل هذه الحالة في أعمال شريكة سارتر الدائمة سيمون دوبوفوار، وبالأخص في عملها المهم الحائز الغونكور، وهو رواية «الماندارين» – أو «المثقفون». وغالبا ما تلاحظ أن بطلة الرواية هي رغبات الكاتبة وليس سيرتها الفعلية. بمعنى أنه يوجد تجريدات وإطلاقات، أو مجاز واقعي يعيد تشكيل الواقع حسب فهمنا له، وأحيانا حسب تعاطينا مع خبراته، وما يترتب على ذلك من مفارقات ومفاجآت. ولا يسع أي قارئ أن لا ينتبه لخيانة الذات لشخصيتها، فالهوية المفروضة على بطلة الرواية هي غير الهوية المختارة تلقائيا. ودائما هناك نزوح تقوم به الشخصيات من داخل الذات لخارجها، أو من عالم التصورات لعالم المادة. والحدود التي تعزل كل فضاء عن عكسه تساهم لحد كبير في صياغة ملحمية لدراما الأفراد.
وربما كانت آيريس مردوك نفسها تنشط بهذه الطريقة. فهي في أعمالها الروائية، التي جاءت بعد كتابها عن سارتر – عراب الوجود الموضوعي، تعيد إنتاج نفسها بمنطق تجريبي، حيث أن كل شخصية في أي عمل يطرأ عليها تطور لاحق في الأعمال التالية. وبهذه الطريقة ينضج وعي ذات الكاتبة مع نضوج واكتمال تصور الشخصيات للعالم. ويمكن إثبات ذلك بمقارنة بسيطة بين أول رواياتها، وهي «تحت الشبكة» الصادرة عام 1954، ورواية «حلم برونو» الصادرة عام 1969.
في المثال الأول تقدم لنا مجموعة شخصيات غير أوديبية. وهذا لا يعني أنها لم تهتم بصراع المرأة – الأم، وإنما كانت شخصياتها مشغولة طوال الوقت بتحسين وضعها الاجتماعي. وإن خاب مسعاها في معظم الحالات، فهذا عائد لسوء تفسير الدوافع الطبقية. ويمكن القول إن كل الشخصيات كانت جريحة، ولم تحاول فهم أسباب أوجاعها ولا تضميدها أو التخفيف منها، بل هي تتعإلى على كل شيء بالإهمال واللامبالاة. وبالنتيجة تحولت لشخصيات متشردة، جوالة، أو إلى صعاليك لهم هدف واحد وهو استغلال طاقات المكان الحاضن. بتعبير آخر كانت مهتمة بالجغرافيا وليس التاريخ. وعلى هذا الأساس أنشأت وعيا أسطوريا ثابتا. وهو ما يذكرنا بحالة بطلة «المثقفون» لدوبوفوار التي كانت مهتمة بغرامياتها الأمريكية، دون التخلي عن واجباتها تجاه وطنها الأم (الذي تصادف أنه في القارة القديمة أوروبا). وأعتقد أن هذه الثنائيات ربما تعيد صياغة المعنى السوسيولوجي للنفس البشرية، بتصعيدها لحالة تقابل حضارات. وهو ما تعبر عنه بمبدأ النفي حينما يلغي العقل الرومانسي العقل العملي التجريبي.
وفي كل النماذج السابقة توجد حواجز طبيعية بين الطرفين، أو حدود من صنع الطبيعة. وكان الحاجز عند دوبوفوار هو المحيط الأطلنطي، وعند مردوك بحر المانش. وهي حواجز مائية وسائلة. وهذا دليل آخر على عدم ثبات الشخصيات وارتهانها لواقعها التجريبي الذي تتنازعه العاطفة – القلب والوجدان – الواجب.
لكن في «حلم برونو» تختار مردوك شخصية مركزية مريضة راقدة في السرير وتحتضر. وتدير أزمة هذه الشخصية من خلال مونولوجات وتيار شعور ومواجهات في المكان مع ألغاز العالم الذهني. وتبدو غرفة برونو كأنها صورة مصغرة من عالم متكامل، فبالإضافة للموازنة بين العشيقة والزوجة ودور كل منهما في تحديد مصيره، يحتفظ برونو بمجموعة من العناكب الغريبة التي تمثل مجمل أنواع هذه المخلوقات، وبهذه الطريقة يكون وعيه الجغرافي مدعوما بوعي تاريخي أيضا. والتضاد الدرامي بين الرابطة الزوجية والغرام المحرم، يقابله التطور الذي لحق بالعناكب من حشرات ضخمة وفتاكة لحشرات وديعة وجميلة، لكنها تصارع من أجل بقائها. ولا يمكن أن أجد في هذه التصورات متابعة محايدة لظواهر الوجود، بل هي تنطوي على إعادة تمركز وتعبئة. ودون شك وراءها إدراك لوعي مجرد (وهو الجانب الذاتي للشخصيات) ووعي تجريبي (وهو الجانب الموضوعي من الشخصيات ذاتها).
ولا أعتقد أنها مجرد مصادفة أن يكون رموز الفكر الوجودي روائيين أيضا. وإن استثنينا هيدغر (وهو ميتافيزيقي مؤمن) فهذا يشمل كامو وكولن ولسون وألبرتو مورافيا. وكل السلسلة لديها تصورات عن وجود منفصل قائم بذاته، بحيث يكون النوع البشري في حالة مواجهة مفتوحة مع ذاته ومع العالم (بأل التعريف. بمعنى أنه عالم شمولي وليس عالما فرديا). في حين تلغي الروايات هذا التصور وتضع الشخصيات داخل عالمها. فهي تتأثر به دون أن تلحق به أي تبدل ملحوظ. وهو ما يدفعها إلى اللامبالاة (في حالة مورافيا – أو الدعابة المريرة والانتباه واليقظة السلبية) بينما تميل للتمرد والعبث وأحيانا الاحتجاج والقرف (في حالة سارتر وكامو).
كاتب سوري