قبل أكثر من عقدين، في شريطه الشهير «عيون مغمضة على اتساعها»، وفي مشهد مذهل ومُحْكَم وعالي التأثير من حيث الأجواء والموسيقى التصويرية؛ كان المخرج الأمريكي البارز ستانلي كوبريك قد فتح ملفّ الاتجار الجنسي بالنساء، ليس لأغراض المتعة وإرضاء الرغبات، أو إدارة البغاء وكسب الأموال، بل على سبيل دغدغة الغرائز البهيمية المريضة لدى كبار الاثرياء ورجال المال والأعمال، وعن طريق التركيب المسرحي المعقد لشعائر جنسية تشدد على السلطة العليا والتسلط والإخضاع. ولعلّ ذلك المشهد هو الأجدر بالاسترجاع، في مستوى التعبير السينمائي على الأقلّ، إذْ تحيي منظمة الأمم المتحدة اليوم العالمي للاتجار بالبشر، في 30 تموز (يوليو) من كلّ عام.
والاتجار بالبشر صناعة ثقيلة في المقام الأوّل، تدرّ مليارات الدولارات على المتاجرين، وتعبر الحدود والقارات والبحار والمحيطات، حتى إذا كانت معدّلات استخدامها أو جني أرباحها أو طبائع توظيفها تتفاوت بين منطقة وأخرى، وبلد وسواه، ونخبة اجتماعية/ مالية بالمقارنة مع فئات وشرائح متباينة. والتجارة هذه تبدأ من أسواق العمل السوداء، المخالفة للأنظمة المعمول بها دولياً لجهة السنّ والأجر وشروط التشغيل وظروف العمل؛ وتمرّ بالاستثمار الجنسي، الذي يشمل الأطفال والقاصرين إناثاً وذكوراً، مثلما ينطوي على استغلال الحاجة والفقر والبؤس والهجرة؛ ولا تنتهي عند تجارة الأعضاء وزرع البويضات والحمل البديل. تهريب النازحين واللاجئين والمهاجرين، على صعيد الموجات الفردية أو الجماعية بصرف النظر عن بواعثها، يندرج بدوره في هذه الصناعة الثقيلة، حيث تكون الشبكات المنظمة لعمليات التهريب محلية أو قارية، وتنطوي على شبكات فساد عابرة للأنظمة والأجهزة والسلطات.
ولا تخطيء منظمة العمل الدولية حين تطلق صفة «العبودية الحديثة» على هذه التجارة، وتقاريرها السنوية تسوق معطيات مرعبة حول التطورات الدائمة التي تشهدها الأسواق المختلفة لهذه العبودية. فمنذ العام 2016 ثمة 40.3 مليون آدمي يرزحون تحت نير الاستعباد الحديث، بينهم 24.9 مليون قَيْد السخرة وأشكال التشغيل القسرية، بما يعني وجود 5.4 من «عبيد» هذا العصر في كلّ 1.000 مواطن على امتداد العالم. كذلك فإنّ طفلاً واحداً على الأقلّ يتواجد ضمن كل 4 ضحايا لهذا الاستعباد، و16 مليون عامل سخرة في قطاعات خاصة مثل الخدمة المنزلية والبناء والزراعة؛ و4.8 مليون ضمن أنماط الاستغلال الجنسي القسري، إناثاً وذكوراً هنا أيضاً؛ و4 ملايين عامل مسخّر خارج القطاعات الخاصة، ولدى سلطات حكومية؛ والنساء والفتيات يشكلن نسبة 99٪ في صناعة الجنس القسري، و58٪ في قطاعات التشغيل الأخرى.
غير أنّ هذه الصناعة، مثلها في ذلك مثل الصناعات الثقيلة المشابهة من حيث النطاق والوظائف والأداء، تتباين من بلد إلى آخر، ومن مجموعة تشغيل وإشراف واستثمار ذات صفة عملاقة إلى أخرى محلية أو أقلّ سطوة وانتشاراً. ورغم كلّ ما تعلنه السلطات الفدرالية الأمريكية من التزام بالتشريعات الدولية الخاصة بمحاربة هذه العبودية الحديثة، فإنّ الولايات المتحدة موئل خصب للكثير من أنماط الاستعباد؛ لأسباب لا تقتصر على تاريخ العبودية العريق في البلد، بل تتصل بالحاضر والراهن وفي مستويات لعلها الأبشع ضمن أنساق الاتجار بالبشر، في قطاع الجنس على وجه التحديد. وإذا صحّ أنّ قضية الملياردير الأمريكي جيفري إبستين، المتحرش ومرتكب الجرائم الجنسية والمتاجر بالقاصرات، قد طُويت قضائياً بموته في زنزانته مطلع آب (أغسطس) 2019؛ فإنّ ذيولها ما تزال تتكشف من خلال قضية غلين ماكسويل، سيدة المجتمع البريطانية المتهمة اليوم بمساعدة إبستين في تسهيل استدراج القاصرات واستمالتهن؛ وكذلك في الاتهام الذي وجهه الادعاء الأمريكي إلى الأمير البريطاني أندرو بعدم التعاون مع القضاء الأمريكي، بصدد الصداقة التي جمعت الأمير مع إبستين.
إذا صحّ أنّ الاتجار بالبشر عابر للحدود والقارات والأقوام والثقافات والتواريخ، وأنه صناعة ثقيلة، فالأصحّ أنّ هذه التجارة تكشف جملة من أبشع مظاهرها في الولايات المتحدة تحديداً
ليس مدهشاً، والحال هذه، أن تكون التجارة الجنسية بالقصّر هي الثالثة الأعلى انتشاراً، ونفوذاً وأرباحاً بالتالي، بعد المخدرات والسلاح، وأن تقول الأرقام إن أمريكا تشهد سنوياً 2.5 مليون حالة «شراء» لخدمة جنسية من القصّر. وليس مستغرباً ألا يكون أمثال إبستين خَدَماً لغرائزهم الشخصية وحدها، أو حتى إرضاء اصدقائهم وشركائهم وإشباع أنساق الشذوذ المختلفة؛ بل هم، في الحساب الأخير، مليارديرات يديرون صناعة متكاملة لا ينقصها شيء من أعراف أي «بزنس». وإذا كانت صداقات إبستين مع أمثال بيل كلنتون وجورج بوش الابن ودونالد ترامب والأمير أندرو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان لا تنهض على توفير الخدمات الجنسية بالضرورة، فإنها عوامل جبارة توضع، مباشرة غالباً، في خدمة متاجرات الرجل على اختلاف أصنافها.
ومن المعروف أنّ إبستين، لدى اعتقاله للمرة الأولى بتهمة التحرش بقاصرات وإغوائهن قبل نحو عقد، حظي من المدّعي الأمريكي ألكسندر أكوستا (الذي سيشغل وزارة العمل، طوال سنتين، في إدارة ترامب!) بصفقة عجيبة أتاحت له الالتفاف على التهم الجنائية الفدرالية، و«العمل» من بيته ستة أيام في الأسبوع، وليلة واحدة سابعة في السجن! والقرار الذي صدر عن محكمة الاستئناف، ووقع في أكثر من 2.000 صفحة، أشار بوضوح إلى أن اتهامات إبستين بجرائم جنسية مختلفة أظهرت أيضاً تورّط «عدد كبير من الساسة الأمريكيين البارزين، ومدراء الشركات النافذين، ورؤساء دول أجنبية، فضلاً عن رؤساء حكومات، وزعماء دوليين آخرين». ويمكن، للراغب في المزيد حول شبكة علاقات إبستين مع عمالقة السياسة والمال والأعمال، العودة إلى كتاب شون أتوود «كلنتون، بوش، ومؤامرات الـCIA»؛ الذي يفصّل القول في الروابط بين تجارات الجنس والمخدرات والسلاح، وما تتضمنه من تستر على مجرم نازي هنا أو دكتاتور شرق ـ أوسطي هناك، فضلاً عن هذه المافيا المنظمة أو تلك، والدور الخاص المنظَّم/ المنظِّم الذي لعبته وكالة المخابرات المركزية في الخلفايات غالباً، أو علانية حين يقتضي الأمر.
وللتذكير المفيد، وكي لا يبقى ترامب وحيداً في ميادين الفضائح الرئاسية الأمريكية، حين فاز الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الأولى سارع الصحافي الإرلندي ألكسندر كوبرن إلى كشف النقاب عن هذا المستور المسكوت عنه: أنّ عمليات تبييض أموال المخدرات، وتدريب مختلف «كوادر» المهنة من طيّارين وموزّعين ومبيّضي أموال، كانت كلّها تجري في بلدة مينا، ولاية أركانسو؛ حيث كان كلينتون هو الحاكم، الذي رفض مئات العرائض المطالبة بإغلاق مطار البلدة الفاسد. كذلك برهن كوبرن أنّ مقرّ الحاكم نفسه، في ليتل روك، كان مسرحاً لأكثر من فصل واحد في فضيحة «إيران ـ غيت» وصفقات الأسلحة إلى عصابات الـ»كونترا»: هناك نسّق أوليفر نورث مع بودي يونغ (المسؤول عن أمن كلينتون الشخصي)، وعميل المخابرات المركزية فيليكس رودريغز (الذي ظلّ يفاخر بأنه انتزع ساعة شي غيفارا، حين كان الثوري الشهيد جثة هامدة، واحتفظ بها للذكرى).
فإذا صحّ أنّ الاتجار بالبشر عابر للحدود والقارات والأقوام والثقافات والتواريخ، وأنه صناعة ثقيلة لا تنفصل البتة عن سلسلة الصناعات التي استغلت البشر وتواصل استغلالهم على مدى العصور والأحقاب؛ فالأصحّ، على نحو خاص أو حتى إنفرادي، أنّ هذه التجارة تكشف جملة من أبشع مظاهرها في الولايات المتحدة تحديداً، هناك حيث القوّة العظمى التي تزعم رفع رايات حقوق الإنسان، ويصون دستورُها الحقوقَ المدنية والقانونية الأكثر التصاقاً بالجوهر الإنساني للكائن البشري. وذلك، وسواه، لم يمنع احتلال الاتجار بالبشر المرتبة الثالثة بعد المخدرات والسلاح، ولم يفلح في تبديل حال العيون، المغمضة… على اتساعها!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
/إذا صحّ أنّ الاتجار بالبشر عابر للحدود والقارات والأقوام والثقافات والتواريخ، وأنه صناعة ثقيلة، فالأصحّ أنّ هذه التجارة تكشف جملة من أبشع مظاهرها في الولايات المتحدة تحديدا/..
غير أن أوروبا ليست مستثناة من ارتكاب هذه الرذائل على الإطلاق، خاصة إن نظرنا في شتى أنواع العهر الجنسي التي مورست /والتي ارتُكبت بسببها شتى أنواع الجرائم/ في بدايات القرن الفائت في إنكلترا وفرنسا وألمانيا /بما فيها النمسا/.. حتى أن الفيلم Eyes Wide Shut /وهو آخر فيلم أخرجه وأنتجه ستانلي كوبريك قبل وفاته بستة أيام من العرض الأول لنسخة المخرج/، حتى أن هذا الفيلم مبنيٌّ، في الأساس، على الرواية القصيرة «رابسوديا» Rhapsody، أو «قصة حلم» Traumnovelle، للكاتب الروائي النمساوي آرثر شْنيتْزِل بين سنتي 1925 و 1926.. ومن المعلوم أن «قصص أحلام»، من هذا النوع الاستيهامي الجنسي، لا تأتي من اللاشيء، فيما يخصُّ أرض الواقع.. !!
بالمناسبة، عنوان الفيلم Eyes Wide Shut فيه نوع من الضديد أو الإرداف الخلفي Oxymoron بنحو سينمائي متعمٌَد.. بناء على ذلك، فإن أقرب ترجمة عربية للتعبير عن هذه الإجراء البلاغي /السينمائي/ هي «عينان مفتوحتان مُطبَقتان على مداهما»، مثنًّى، أو «عيونٌ مفتوحةٌ مُطبَقةٌ على مداها»، جمعا.. إلخ.. !!
** هذه الإجراء
** هذا الإجراء