يرى العالم روسيا من الخارج ويعرف المخاطر الجيوسياسية التي تحيطها، لكن مهما بلغت معرفة العالم التي تتأتى من الخرائط والمعطيات الواقعية، فثمة ما هو داخلي في تركيبة العقلية الروسية، لا يمكن الإحاطة به لأنه يتوارى عميقاً داخل الجينات التاريخية المشكلة للشخصية الوطنية، ذكريات كثيرة حافلة بالحرائق والجوع وملايين القتلى، الذين خلفوا وراءهم الأرامل والثواكل اللواتي بدورهن همسوا بهذه القصص قبل النوم لأجيال من الأطفال الروس، روسيا البلد الذي كسر الغزاة من نابليون إلى هتلر بثمن باهظ للغاية، بتشوهات نفسية وخوف مقيم ورغبة في خلق حواجز كثيرة تحول دون الدخول إلى مدنهم وأريافهم الهادئة، ومن هذه الحساسية الارتيابية، كان يمكن توريط روسيا في ظل استراتيجيتها المتأهبة لضمان الأمن القومي.
يكتشف العالم أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي لم يكن يمتلك أي شيء حقيقي بين يديه يؤهله للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وأن مشهد الابتزاز العاطفي الذي جعله يوقع تحت القصف طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي لم يجد التجاوب لدى الأوروبيين، وأن رهاناته لم تكن ساذجة فقط، لكنها كانت غارقة في الأوهام ورومانسية إلى أبعد الحدود، فيظهر مثل كاتب سيناريو فاشل يعتقد أن الأمير سيهرع لانتشال الفتاة الجميلة ويتزوجها في النهاية، نهاية سعيدة كلاسيكية أصبحت تثير استياء المتفرجين ولا تغري منتجي السينما، ببساطة لأن هذه الأمور لا تحدث في الواقع، فأقصى ما يمكن أن يفعله الأمير هو أن يعطي الفتاة بعض المال لتتدبر أمورها.
الرئيس الأوكراني لم يكن يمتلك أي شيء حقيقي بين يديه يؤهله للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي لم يجد التجاوب لدى الأوروبيين
الغرق في الأسباب المباشرة والمصالح قصيرة المدى بخصوص المسألة الروسية، يبتعد بقراءة المشهد عن تفاصيل كثيرة، فالعالم يشهد احتراراً عالمياً يمكن أن يؤدي إلى هجرات واسعة من المناطق القريبة من خط الاستواء، والموارد القائمة في العالم تعاني من تراجع كبير أمام قرون من الاستهلاك الكثيف لمواقعها التقليدية، وما تمتلكه روسيا هو خزان هائل من الأرض لم يستشكف بأكمله في سيبيريا والمناطق الشرقية من البلاد، وهي الأرض التي ارتبطت بتوظيفها من القياصرة والنظام البلشفي، لنفي المعارضين في عقوبة قاسية تعيدهم من هناك مجردين من الطاقة والأمل. هذه الأرض يمكن أن تصبح أرضاً للأحلام في المستقبل غير البعيد، فدرجات الحرارة التي تتصاعد معدلاتها عاماً بعد الآخر ستجعل من هذه المنطقة الشاسعة مكاناً مناسباً ومغرياً في بعض مناطقه للاستيطان من قبل عشرات الملايين من البشر، وهذه الطاقة السكانية التي لا تستطيع روسيا أن تقدمها، فروسيا ليست بالبلد الكبير سكانياً، واستحواذها على هذه الأراضي في القسم الآسيوي كان قائماً لتجنب غزوات أخرى بعد الغزو المغولي الواسع والمرعب للمناطق الروسية في العصور الوسطى، أي تأمين حاجز طبيعي لا يمكن الجيوش الغازية من الوصول إلى قلب روسيا الأوروبي ويجعل أي معركة تبدأ بعيداً عن مدنهم وقراهم. المشكلة في أوروبا لم تكن لتحل بالطريقة نفسها، فروسيا وجدت نفسها أمام تحديات للسيطرة على مناطق متقدمة تفصلها عن القوى الأوروبية التقليدية، خاصة في ألمانيا وفرنسا، وأتت الفرصة التاريخية في الحرب على النازية التي جعلتها تتقدم إلى برلين وتسيطر على أوروبا الشرقية، وترعى أنظمة تابعة لفضائها، وهو الأمر الذي لم يتمكن الروس من المحافظة عليه، فأنماط معيشة الغرب، والدعاية المكثفة للحلم الأمريكي في صورته الأوروبية، جعلت هذه الدول تتطلع للانضمام إلى مجتمعات الوفرة والخيارات المفتوحة في أوروبا، وتساقطت مناطق نفوذ الروس بالتدريج لتجد روسيا نفسه دولة معرضة للتآكل. وتتابعت الوقائع المرافقة للانهيار لتجعل روسيا تفقد أجزاءً كبيرة من ميراث الاتحاد السوفييتي، وبعد الاستفاقة التي حدثت مع بداية الألفية الجديدة، ودخول العالم في الحرب على الإرهاب بقيادة أمريكية، تأسست رؤية جديدة باعتبار أراضي الاتحاد السوفييتي السابقة أرضاً محرمة، وكانت روسيا تمتلك المبرر الأخلاقي لذلك، فالبنية التحتية والمؤسسات التي يتمتع بها الكثير من الدول موروثة من الاتحاد السوفييتي، بل كانت ثمة تفاهمات حول وضع بعض الأراضي الروسية في محيط الدول التي كانت تشكل أقاليم سوفييتية سابقة، وتوجد سطوة ثقافية للروس في العديد من البلدان، ولذلك لم يكن مقبولاً أن يدخل الغرب أو الاتحاد الأوروبي لهذه الأرض المحرمة، وإذا كانت دول البلطيق استطاعت القفز مبكراً ونظراً لأهميتها على طرق التجارة المستقبلية، التي ستنشط مع تصاعد درجات الحرارة عبر القطب الشمالي، وتوطن الشعوب الجرمانية في أراضيها، فإن ذلك لا ينطبق على أوكرانيا التي لم تدرك أن اللعبة تغيرت بشكل كبير، وأن السنوات التي تفصل بين انضمام دول البلطيق إلى الناتو شهدت تحولات جيواستراتيجية هائلة.
يعترف لافروف بأن بلاده ربما استدرجت إلى أوكرانيا، لكن ذلك ليس اختيارياً، فرد الفعل في أوكرانيا نموذج لردود فعل أخرى لتهديدات قد تحدث على امتداد الحدود الروسية الطويلة مع العديد من البلدان، وأصدقاء اليوم ربما يتحولون إلى أعداء في المستقبل، والروسي، من بوتين إلى أي مواطن عادي، يعيش وفي رأسه تعشش دموع نساء الفقد من أمهات وزوجات وصرخات الجنود القتلى والمصابين، وأمام ذلك، لا يمكن عقلنة الفكر الاستراتيجي الروسي، أو وضعه في منظور تقليدي، فروسيا تعيش بين أرض موعودة ومنذورة للمستقبل، وأخرى محرمة محاطة بأشباح الماضي، والعالم بينما يدخل إلى الأرض المحرمة فعيونه معلقة بتلك البعيدة الموعودة.
كاتب أردني
استفزت روسيا العالم بالقرن الماضي بغزو 15 دولة بمظلة إتحاد سوفياتي فحاصره العالم الحر حتى انهار اقتصادياً واجتماعياً وانسحب من 15 دولة وتحجم بالإتحاد الروسي، والآن تعود روسيا للإستفزاز بغزو جورجيا وسوريا وأوكرانيا فتجند العالم الحر بخدمة الأوكران سياسيا وماليا وعسكريا واقتصاديا وإنسانيا كماً ونوعاً بسرعة فائقة وتكاتف فريد لحكومات وبرلمانات وشعوب وشركات بوجه الإتحاد الروسي وصولاً لانهياره اقتصادياً واجتماعياً وتفككه فتستقل مناطق القوقاز وعدة قوميات محتلة وتبعد روسيا عن بحار الأسود وقزوين والبلطيق
غزو روسيا لأوكرانيا أثبت استحالة دمج روسيا بنظام عالمي فعادت أوروبا لحضن حماية أمريكية بريطانية وفقدت إيران وفنزويلا وشمال كوريا راعيها بسقوط روسيا بمستنقع أوكرانيا ولم يعد أمامهم إلا خضوع غير مشروط للعالم الحر، وبالتوازي استعاد الوطن العربي تموضع إستراتيجي بحيازته أهم ممرات تجارة دولية بري وبحري وجوي وأهم ممرات كوابل اتصالات دولية وأكبر احتياطات وإنتاج نفط وغاز وهي أهم مواد استراتيجية لتسيير إقتصاد العالم الحر والبديل الوحيد لروسيا وبالتالي عودة تنافس شديد بين دول عظمى على كسب ود كل دولة عربية.
سقوط روسيا بمستنقع أوكرانيا مفيد للصين فلديها فائض 3 تريليون وتستورد كل منتج روسي يحظره العالم الحر بسعر بخس وبالمقابل لدى روسيا فائض أراضي ( 17 مليون كيلومتر مربع بعدد سكان 144 مليون) وتعاني الصين من نقص أراضي (10 مليون كيلومتر مربع أي نصف مساحة روسيا بعدد سكان 1.4 مليار أي 10 أضعاف سكان روسيا) فبإمكان الصين استغلال التموضع الاستراتيجي لتوسع مساحتها بتنازل روسيا عن 7 مليون كيلومتر مربع بشرقها للصين لتكسب حليف أبدي وبغير ذلك تطبق عقوبات العالم الحر على روسيا وتستمر بمراكمة فوائض تجارية تريليونية
غزو روسيا لأوكرانيا أنتج أزمة بترول وغاز لدول العالم دفعتها لتسريع تحول لطاقة متجددة ولدعم زيادة تنقيب وإنتاج بترول وغاز بأرضها وبحرها وبالتوازي تنويع مصادر استيرادها لتستغني تدريجياً عن روسيا للأبد ويكون الغزو قد قضى على قطاع طاقة روسي بدون مبرر، وأنتج الغزو أزمة حبوب وأسمدة لدول نامية ستضطر ومواطنيها لوقف هدر الخبز بإلغاء دعمه فينزل إستهلاكه للنصف وبالتوازي ستدعم زراعة حبوب وصناعة أسمدة لديها فتستغني عن إنتاج روسيا وأوكرانيا للأبد ويكون الغزو قد قضى على قطاعي زراعة وأسمدة بهما بدون مبرر.