في الوقت الذي تقبع بلادنا في حفرة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ينبري الحاكم والمحكوم لتَدافُعِ التهم، كلاهما يشير إلى الآخر بأصابع الاتهام، في أنه وحده المسؤول عن ذلك التخلف وتلك الأزمات.
تُدافِع الأنظمة والحكومات عن سياساتها، وترفض الاعتراف بفشلها أو تقصيرها، فهي من جانب تروّج لإنجازات وهمية في عيون المواطنين، ويشيد إعلاميوها بمدى التقدم الذي أحرزته في شتى المجالات، غير مكترثة لذلك المواطن الذي يرقب تلك الأخبار في حسرة ودهشة أيضا، وهو يرى أن الإعلام يتحدث عن الأوضاع الداخلية وكأنه أتى من كوكب آخر،
أو تمارس الحكومات عادتها في إطلاق الوعود المستقبلية البراقة، وتعتبر أنها من جملة محاسنها، استخفافا بعقول المواطنين.
الراعي دائما يكون على مستوى الرعية، فإذا كانت الرعية على قدر التحديات التي تواجهها، واصطبغ المجتمع بنزعة الإصلاح، حينها لن يكون هناك مكان للاستبداد
ومن جانب آخر، وحتى تختلق إجابة للرد على ما اتفق الجميع على توصيفه بالفشل، تُحمّل هذه الأنظمة شعوبها مسؤولية هذا التردي، فهي تلقي باللائمة على المواطنين في كثرة الإنجاب، ووهن الانتماء، وضعف ثقافة ترشيد الاستهلاك، والخلل في مسالك الإنفاق، والإغراق في السلبية، وقلة الضمير، إلى آخر قائمة الاتهامات التي تبرئ ساحة الأنظمة. وفي المقابل، تُحمّل الجماهير أنظمتها كامل المسؤولية عما آلت إليه البلاد من ضعف وفاقة وتخلف، لأن زمام الأمور بيدها، وهي التي توجه دفة السفينة، وبهذا ترتاح ضمائر الجماهير في أنها ليست المسؤولة عن هذه الأوضاع السيئة، بل تسوغ لنفسها التجاوب مع الواقع الفاسد، وترسّخ في وعيها أنه لن تستقيم أمور البلاد والعباد، إلا بزوال هذه الأنظمة المستبدة المتسببة في كل هذه الأزمات. والحق أن الجميع شركاء في صناعة هذه الأزمات، الحاكم والمحكوم، كلاهما له نصيب منها، فأما مسؤولية الحكام فهي أمر ظاهر، فإن النظام بيده مقاليد الحكم والسلطة التي يستطيع من خلالها تثبيت القيم وإمضاء الخطوات الإصلاحية، ومواجهة الفساد، كما جاء في الأثر المعروف عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». وعندما يكون الحاكم على قدر المسؤولية الموكولة إليه في إدارة شؤون الرعية، فإنه يكون قدوة ومثلا لأنه يتصدر المشهد، فمتى كان جامعا لخصال القوة والأمانة، وصل ذلك الأثر إلى نفوس الرعية تبعا، وعندما جيء إلى الخليفة عمر بن الخطاب بسيف كسرى ومنطقته (ما يشد به الوسط)، قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «رأوكَ عففتَ فعفّوا، ولو رتعتَ لرتعوا». وعندما تُذكر السعة ورغد العيش الذي كان عليه الناس في عهد عمر بن عبد العزيز، والنداء في الناس، ليُقبِل ذوو الحاجات من الراغبين في الزواج أو سداد الديون للأخذ من بيت المال، فلا يجد المال من يأخذه بما ينم عن الكفاية، تستوقفني هنا قناعة الناس وقطعهم الطمع في المزيد، وهو متاح لهم، فهذا تأثير الراعي في الرعية، لكن عندما يستبد الحاكم، ينسحب هذا الاستبداد بشكل هرمي، من الأعلى إلى الأسفل، وعندما تنهب الحكومات خيرات البلاد وتستشري في مؤسساتها مظاهر الفساد، تنتشر تلك المظاهر بين أفراد الشعب ذاته، وهذا أيضا من تأثير الحاكم على الرعية، والتي تستسيغ حينها الفساد والظلم والرشوة والأنانية والاحتيال، فكما قيل:
إذا كان ربُّ البيت بالدفّ ضاربٌ.. فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ
أما مسؤولية الرعية عن الأحوال المتردية، فإن أول ما يقال فيه، إن الحاكم المستبد قد نبت من نفس التربة، عاش في الأرض ذاتها، ونشأ في البيئة نفسها، لم يأت للرعية من عالم آخر ولا من بلاد أخرى، ولم يكن ليصل إلى عرشه إلا في ظل وجود رعية غافلة تشبعت بكل مقومات استجهالها والاستخفاف بها. الرعية مسؤولة عندما صمتت على أمارات الاستبداد الأولى، قبل أن يستفحل أمر الظلم، وتصبح الجماهير عاجزة عن مواجهته، ومسؤولة عندما تخلت عن دورها في اختيار من يحكمها، ثم عن دورها في تقويم حكامها، بسبب الانصراف عن الشأن العام إلى الشأن الخاص، وأصبح الأخير هو الهم الأعظم لكل الأفراد، وحتى في ظل وجود الأنظمة الاستبدادية، لا تُعفى الجماهير من المسؤولية عن سوء الأوضاع وترديها، فليس هناك من يجبر المرتشي على قبول الرشوة، وليس هناك من يجبر آكل حقوق الناس بالباطل على فعل ذلك، وليس هناك من يطالب الناس بالتخلي عن إتقان العمل أو التهاون مع الوقت والموعد، وليس هناك من يجبر المحتكر على تكديس السلع لرفع أسعارها ومضاعفة أرباحه على حساب قوت الفقراء والبسطاء، نعم هناك من يفتح الطريق إلى ذلك، وهناك من يسهل أمر الفساد أمام الناس، لكنهم في النهاية ليسوا مجبرين على ذلك.
والشعوب التي تكون على هذا النحو، إنما تمارس نوعا من الاستبداد في حق نفسها، مقابل الاستبداد الذي تمارسه الأنظمة الجائرة.
ما ينبغي أن يدركه كل فرد، أنه جزء من المشكلة، أسهم في وجودها بشكل أو بآخر، وأن القول بحتمية زوال الأنظمة المستبدة أولا ليظهر صلاح الشعوب، هو ضربٌ من تخدير النفس، ورغبة في الاستجابة لدواعي الخمول والدعة، ونوع من الحيل النفسية التي تبرر لصاحبها قعوده وركونه إلى الأمر الواقع. الراعي دائما يكون على مستوى الرعية، فإذا كانت الرعية على قدر التحديات التي تواجهها، واصطبغ المجتمع بنزعة الإصلاح، حينها لن يكون هناك مكان للاستبداد، نعم ستكون هناك معوقات ضخمة تعترض هذه النزعات الإصلاحية، لكن تجاوزها ليس بالمستحيل، وإن هذا الإصلاح، الذي يأتي من القاعدة بكل أثقاله وتبعاته، ضريبة ينبغي أن تدفعها الشعوب لتسترد حقوقها المسلوبة في حكم بلادها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية