تحكم إدراكنا للأشياء في الكون مقولاتٌ كبرى منها مقولة الثنائيات. نعني بالثنائيات أن ندرك الأشياء في شكل زوج أو ثالوث أو أكثر من ذلك، تجمعها علاقاتُ تضاد أو تقابل. فالنهار والليل في إدراكنا زوج متضاد لا يعرف فيه طرف إلا بالنسبة إلى الثاني. فأنت تقرأ الآن هذا المقال وتعلم أنك تقرؤه ليلا أو نهارا، حسب وعيك المفارق بأن غياب قرائن النهار من النور وشعاع الشمس مثلا هي التي تجعل الزمان ليلا، أو أن عدم قرائن النهار من الظلمة ونور القمر هي التي تجعل الزمان نهارا. كذا تدرك الأشياء الكثيرة الحسية أو النفسية، فالقر لا يُدرك إلا بالحر، ولا يدرك الجمال إلا بالقبح.. إدراكنا في تصورنا الثنائي يحكم ضبط الأشياء في أزواج تعمل تفارقيا لكي تيسر علينا مَقْوَلَةَ العناصر في الكون. هذا المبدأ الإدراكي والمقولي صاغه الناس في مبدأ عام: إنه بأضدادها تتمايز الأشياء. وصار هذا المبدأ قاعدة معرفية عامة بنيت بمقتضاها أفكار كثير من العلوم القديمة ونُظْمِتْ بما في ذلك علوم اللسان.
بنى النحو العربي القديم أفكاره على ثنائية عميقة هي ثنائية الأصل والفرع. فصنع الأقيسة النحوية بهذه الثنائية التي نجدها تحكم علوما أخرى تعتمد على تأسيس الأصول وتنظر في انعدال الأشياء عن تلكم الأصول. وما تزال ثنائية الأصل والفرع تحكم إدراكنا لكثير من الأشياء والعلاقات، بل تنظم كثيرا من قوانيننا. وفي اللسانيات الحديثة صاغ العلامة دي سوسير فكرة النظام على مبدأ التقابل، الذي ضمنه في فكرة القيمة؛ ومن التئام عناصرها صنع مفهوما أغرى كثيرا من العلوم غير اللسانية هو مفهوم البنية الذي ما يزال ذا بريق وإن خفت جماله قليلا قليلا.
لم يعد للثنائية بريقها الذي كان لها بعد أن حل محلها مفهوم عرفاني في ثمانينيات القرن الماضي، هو الاسترسال الذي استفادت منه الدراسات اللسانية.
فكرة البنية فكرة عبقرية تقول إن الأشياء والمفاهيم لا توجد إذ توجد شَتاتا وبعثرة بل لا بد أن تجمعها علاقة ما، وأن العلاقة الأهم هي علاقة التقابل. علاقات المشابهة مفيدة في انتساب الأشياء إلى مقولة واحدة، ولكن التقابل أكثر إفادة لأنه يجعل الأشياء تنماز بعضها من بعض وتخلق هويتها وماهيتها التي تحتاجها كي تتمقول وتترتب في باب. وتقابُلُ العناصر بمكوناتها الذرية أو الكبرى يجعلها منتظمة في مقولة تصنع لها انسجامها وشكلها وصلابة انتمائها إلى تلك المقولة. صارت فكرة البنية تستخدم في كثرة كاثرة من الأشياء؛ فنحن نتحدث عن بنية التربة وعن بنية اجتماعية وعن بنية في الثقافة، وغيرها من البنى التي تدل على أن وعينا بهذه العناصر استوعبها، وهي في شكل نظام تتقابل عناصره وتعمل إذ تعمل في شكل تقابلي لكل منها صفات وأعمال ووظائف تميزها من غيرها.
لكن لم يعد للثنائية بريقها الذي كان لها بعد أن حل محلها مفهوم عرفاني في ثمانينيات القرن الماضي، هو الاسترسال الذي استفادت منه الدراسات اللسانية. فلقد تقرر مع علماء من أمثال لنغاكر وكروفت، بأن الخط الفاصل بين معجم لغة معينة وإعرابها، إنْ هو إلا وهم. فبعد أن سادت لدهر فكرة أن دراسة لغة يمكن أن تكون من منظارين كبيرين: معجمي وتركيبي إعرابي بأن ننظر في وحداتها المعجمية، وفي جملة القواعد الإعرابية التي تمكن الوحدات من أن تتألف في مركبات وجمل؛ قال اللسانيون العرفانيون إنه لا يوجد فاصل دقيق حقا بين مستوى الوحدة المعجمية ووحدات التركيب، ولا توجد حجج تدعم هذا الفصل فما بينها لا علاقة تضاد، بل هي في مسترسل.
يقتضي المسترسل مجموعة من الأشياء يمكن أن ندركها لا بشكل تقابلي ثنائي أو ثلاثي أو أكثر، بل ندركها على أنها عناصر متتابعة في استرسال؛ وهذا الاسترسال يقتضي أن نرى عناصر متدرجة يكاد لا يتضح الخلاف بينها بيسر إلا بعد تدريج، ولا يمكن أن يظهر اختلافها في نقطة فاصلة يمكن تعيينها بدقة، بهذا المعنى نحن لا ننتقل فجأة من ليل إلى نهار، بل هناك مناطق من النهار أقرب إلى الليل والعكس صحيح. أفضل مثال على ذلك هو الألوان في قوس قزح، فإنها مسترسل من الألوان تمر فيه من الأسود إلى الأحمر إلى الأصفر إلى الأخضر إلى الأزرق، بشكل تتابعي مسترسل، ولا يمكن أنْ تدعي في نقطة من ذلك المسترسل أنك انتقلت من لون معين إلى آخر. لا يمكن لأي كان وهو بالعين المجردة أن يدعي أن نقطة ما في بعد ما هي ما يفصل الأخضر عن الأزرق. كذلك الشأن بالنسبة إلى المسترسل في اللغة لا يمكن أنْ ندعي في مستوى معين بأننا انتقلنا من المعجم (أي الدلالة) إلى الصرف ومن الصرف إلى النحو أو العكس.
ما جعل اللسانيين العرفانيين يفكرون في المسترسل، أنهم ألفوا مستحيلا أحيانا أن تفكر في الوحدات المعجمية بشكل مستقل عن أشكال العَقْد فيها والتركيب. فعلى سبيل المثال لا يمكن لي أنْ أعرف معنى الفعل (رَغِبَ) مطلقا من علاقته التركيبية بحرف الجر فـ(رغبت في السفر) هي نقيض (رغبت عن السفر) في الأولى معنى الرغبة الفعلية أو الطرازية وفي الثانية نقيضُ الرغبة؛ وما دام الفعل أفاد الشيء ونقيضه بتغيير حرف الجر، فيعني ذلك أنه من المستحيل أن يكون للفعل (رغب) معنى معجمي نقول إنه يفيد ما قرره له صاحب «لسان العرب» بقوله: «رغب يرغب رغبة إذا حرص على الشيء وطمع فيه» (1/422) فهذا المعنى لا يفيده إلا (رغب في).
عقلنا نرجسي أحيانا يزين لنا جمال موقعنا وقبح موقع الآخر.
إن التفكير في الاسترسال هو تفكير يحاول أن يتخلص من الثنائيات الخانقة، بأنْ يوسع دائرة المفاهيم لا عددا، بل انتشارا ففي الثنائيات لا يقبل عقل المتدين إلا الإيمان والكفر، وفيها لا يقبل عقل السياسي إلا الموالاة والمعارضة، ولا يقبل قلب العاشق غير الحب والكره، وعقل المتعلم الفهم وعدم الفهم، وعقل الفقيه غير الحلال والحرام.. وهذا تصور ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك، ويجعل أحد الطرفين محورَ التوازن والأصالة، والآخر مقاما للخلل وانخرام التوازن. باسم الثنائية يكفرُ الناسُ ويُتهمون بالمعارضة ويخونون لأدنى الملابسة لأنه لا وجود لمنطقة أخرى لغير الخير سوى الشر. لكن في تفكير الاسترسال توسع الدائرة فتكون المعارضة درجات والموالاة درجات بين أقصيَيْن. ليس في هذا التصور انغلاق، بل انفتاح أكثر، فهو تصور يستجيب أكثر من غيره للتسامح مع الآخر، ويبدو أكثر انفتاحا على التعدد، ولكنه لا يمكن أن يخلق في سياق من يتموقع في وضعية يرى غيره ضدها، بل يراه بعيدا أو قريبا في مسترسل من الوضعيات الممكنة. ليس عيبا أن تتموقع وأن ترى غيرك بالنسبة إلى ذلك الموقع؛ العيب أن ترى أن موقعك هو الصحيح وموضع غيرك هو الصواب.
لكنْ هل يمكن للعقل أن يفكر إذا تعلق الأمر بالذات إلا بطريقة ثنائية منحازة إلى موقع من يفكر؟ عقلنا نرجسي أحيانا يزين لنا جمال موقعنا وقبح موقع الآخر. لا بد لمتعقل ذاته وتموقعها من تدريب شديد حتى تنسب المواضع ويقبل مواضع غيره مع موضعه فلا يضيق الكون.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية