هل الاشتياق هو نتاج الوحدة، أم السفر، أم الفراق، أم التقدم في العمر، أم في اتساع الأماكن؟ وهل يكون في الليل أكثر أم النهار؟ لا إجابة قاطعة في ذلك، فهو ابن ذلك كله. ما أتحدث عنه هنا يتجاوز الرغبات المكبوتة التي تتحقق في الأحلام.. ويتجاوز التخاطب الروحي الذي حين تفكر في غائب تراه أمامك، لكن من المؤكد أن الوحدة في كل الحالات التي أشرت إليها هي أكثر ما تثيره في الروح، بل في العقل رغم الوعي.. الوحدة سواء كانت إرادية أم إجبارية في السجون مثلا. لا أنسى قصة قصيرة كتبتها يوما في التسعينيات من وحي أيام اعتقال لم يطل عام 1985، لأننا كنا ثائرين ضد التطبيع مع إسرائيل، تم القبض علينا عند الفجر في أول يناير/كانون الثاني من ذلك العام، قبل خمسة وعشرين يوما من معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي كانت إسرائيل تشارك فيه منذ عام 1981. بالمناسبة صار هذا العام آخر أعوام مشاركتها. المهم أني بعد سنوات كتبت قصة بعنوان «الليل نام» عن سجين نام كل من حوله في العنبر إلا هو، وأحس أنه لا نهاية لليل لأنه لا يجد أي أحد يتحدث معه ليمر الوقت، كنا نقيم ندوات ليلية حول موضوع ما نقطع بها الوقت، لكني تعودت على السهر، ومن ثم يطول بي الليل، وخاصة مع الوحدة بعد أن ينام الجميع. في القصة أحس السجين أن الليل نائم ولن يأتي النهار، فقام مجنونا إلى باب العنبر ينادي «يا شاويش يا شاويش» بصوت عالٍ، جاء الحارس مفزوعا متصورا أن مصيبة ألمت بأحد، وسأله لماذا تصرخ. ماذا جرى؟ فقال له بهدوء وهو يكاد يبكي «قف اتكلم معايا شوية».
هذه الوحدة لا يعرفها إلا من كابدها، لكن الوحدة قد تتحقق في كل ما سألت عنه في بداية المقال، أكثر ما تتحقق الوحدة فيه يكون الكاتب أو الفنان. ليس لكل الناس القدرة على إبداع روايات أو قصص أو شعر أو رسم، وليس الفنانون كلهم يستطيعون تحقيق ذلك وسط الآخرين، ومن ثم قد تكون الوحدة ليلا أو نهارا. أنا عشت عمري ابن الليل. مهما طال تتحرك فيه شخصيات الرواية أو القصة التي أكتب فيها فتؤنس وحدتي، حتى إني لم أشعر أبدا باقتراب الفجر، بل كنت أرى الضوء يغمر الدنيا حولي فجأة، وأكتشف أنه قد مرت أربع أو خمس ساعات بعد منتصف الليل، وهو الموعد الذي أبدأ فيه عادة كتابة أعمالي، لن أنكر بحكم العمر أنه مع التقدم فيه أشتاق إلى أيام أجمل، وحين يتساقط من حولي أجمل أصدقاء العمر، كثيرا ما أجد نفسي أكاد أطلب كلا منهم في التليفون، فأنا لم أحذف أسماءهم ولا أرقامهم. يحدث ذلك مثلا مع سعيد الكفراوي ومحمد كشيك وشاكر عبد الحميد. أشتاق إلى أيام الضحك وأتذكر كل شيء، ثم تقف أصابعي على الموبايل لا أطلب أحدا منهم. أتذكر أنهم رحلوا، لكن لا يفارقني الاشتياق. كتبت عنهم جميعا هنا وفي صحف أخرى، وفي كتابي عن الأيام الحلوة فقط شاعرا بأني أقيم لكل منهم وغيرهم، تماثيل أقف أمامها كل يوم أتكلم معها. لكن الاشتياق ليس للأحباء فقط. بالطبع لا اشتياق للأشرار، لكنه يتسع ويدخل منطقة الخيال.
ما حولنا في البلاد يجعلنا لا نجد سببا للسعادة، إلا مع أفلام جديدة أو قديمة أتابعها في التلفزيون، أقطع بها الوقت حين يطول، ودائما يطول مع شخص لا عمل رسمي له، فهو يقضي كل وقته تقريبا في البيت. أكثر ما أشتاق إليه كلما نظرت حولي ورأيت ما يحدث في البلاد، هو أن أقطع رحلة في البحار لا تنتهي. لا تصل إلى أي جزيرة، ولا شاطئ. أتذكر رحلة عودة أوديسيوس من طروادة، وكيف استغرقت عشر سنوات. أتمنى أن أفعل مثله، لكن لا تنتهي الرحلة، فلا بيت سأصل إليه. لا وطن. أشتاق إلى سماع صوت السيرينيات ربات الغواية، وأجعل البحارة يربطونني في إحدى صواري السفينة كأوديسيوس، فأسمع أصوات الغواية ولا استجيب لها. أكون مثل أوديسيوس قد قطعت الحبال التي ربطني بها البحارة، لكن بعد أن تجاوزت المكان. أنتظر أن أسمع السيرينيات في بحر أو محيط آخر، وأسمعهم ولا أستجيب فلا أريد للرحلة أن تنتهي. أفكر في لحظات أن أستجيب، لكن لا أعرف ماذا سأجد أسفل البحر حتى أتفاداه. وجودي في القاهرة وغيابي الطويل عن الإسكندرية ربما هو السبب في اشتياقي للبحر، والوقوف على شاطئه أتطلع إلى السحب البعيدة، وأرى النوارس تهبط تلتقط من بين الصخور أسماكا أو شيئا من الكابوريا – سرطان البحر- وتصعد به إلى السماء. أجل يطل عليّ سؤال ماذا وراء الأفق، وهل يوجد عالم بعد ما أراه.
أعرف بحكم العلم أنه يوجد عالم، لكن الوقوف على الشاطئ يثير كثيرا من الأسئلة. لكن أكثر اشتياق حدث معي هذا العام كان في الساعة، أو النصف ساعة التي تسبق مدفع الإفطار. أسمع من الغرفة الأخرى صوت المطرب محمد الكحلاوي يغني أغنيته الشهيرة «لأجل النبي». ثم دقائق من القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت الذي هو من السماء. هكذا تأخذني الأغنية وبعدها القرآن الكريم إلى الفضاء. أفكر كيف أن رحلة السماء ستكون مختلفة عن رحلة البحار، فلن أسمع فيها السيرينيات وأصوات الغواية، بل ستأخذني وتقترب بي من النهاية التي اكتشف أني كثيرا ما اشتاق إليها. يأتي الأذان ويأخذني صوته إلى السماء أكثر، وأشتاق للرحلة. صوت محمد الكحلاوي وكلمات أغنيته، وصوت الشيخ محمد رفعت وصوت المؤذن، هي التي تحملني إلى الفضاء، وتجعلني لا أنكر أبدا أن هناك عالما آخر. لم يمر عليّ يوم في رمضان الكريم إلا واشتقت لهذه الرحلة، التي لا أريد أن أفسدها بالحديث المفصل عن الأسباب، لأني أعرف أنها أسباب عابرة قد تمر بكل الناس. الحديث عما حولك من أسباب يفسد الإحساس. الاشتياق العظيم هو دائما للرحلة التي لا تنتهي، وليس مهما أن يكون لي بيت كما كان لأوديسيوس، كي أعود إليه ولو بعد عشر سنوات. أما رحلة السماء فهي على أمل في المدينة الفاضلة، أضحك وأنا أتذكر شيئا من تأملاتي كتبتها أيام عزلة كورونا قائلا:
«تصرخ السحب
كيف تركت الأرض ياىمجنون؟!
يهتف..
دعوني أصل إلى المدينة الفاضلة.
تضحك السحب ويأتيه صوتها..
كيف للقادم من مدينة الغياب
أن يجد مكانا في مدينة الحضور؟
رغم ذلك يظل الأمل ويزداد الاشتياق. ما حولي لخصته أيضا أيام العزلة في الكلمات الآتية وارتحت منه:
«أراك تقف أمام أسوار المدينة.
كل الأبواب مفتوحة..
لماذا تنادي ساكنيها ولا تدخل؟
أعرف أنه لم يعد بها بشر.
أريد أن يأتني أحد يقول لي:
لا حاكم هنا أيضا،
ولا جنود»
يكون الاشتياق عادة لما ضاع ، لكنه يكون جميلا حين يتسع للأوهام. تغريني السفينة التي تمشي في البحار ولا تعود، رغم أني أعرف أنها لن تتحقق. تظل هي الحلم الضائع والغائب. حقا تشتاق إلى أحباء رحلوا، ويأخذك الحزن، أو الشجن، لكن السفينة توقف نهر الاشتياق لما عرفت أو شاهدت، وتأخذك إلى الخيال. من يمكن أن يحقق لك السفينة غير رواية تكتبها، لكن الروايات ليست بالأمر، وما كتبته في كل حياتي كان خاليا من السفينة، التي يمكن أن تحملني في رحلة بلا عودة. سأظل انتظرها. من يدري قد تصبح حقيقة.
كاتب مصري