في لقاء خاص ومطوّل مع الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق، استمر ليلة، حتى كاد النهار يطلع، وجدتني أعود معها في محاورة عميقة إلى أعمالها المفقودة من المكتبات تماما، كان سؤالي بسيطا في البداية، ولم أتوقع إجابة حادّة منها تشكّل بالمختصر معاناة كاتبة خطّت طريقا صعبا بثيمة لا يتقبلها حتى معشر المثقفين، ثيمة الاغتصاب.
تقول الفاروق: «مشكلتي ليست مع القارئ العربي، بل مع اللوبي الذي يتحكم في ذائقته»، ويبدو أن هذه الثيمة من أكثر ما يقلق هذا اللوبي على رأيها، ولمن لا يعرف بالضبط عن ماذا أتحدث، سأعود بكم إلى أول أعمالها الروائية «مزاج مراهقة» الصادرة عن دار الفارابي ـ بيروت، وهي رواية مرَّرت بذكاء ميكانيزمات تَشَكُل النضج العقلي والنضج العاطفي لدى المرأة في مجتمعنا، وقد اعتبرتها دوما الرواية المفتاح، لقراءة فضيلة الفاروق، لارتباطها بتشريح المرحلة الحساسة، التي تتكوّن فيها مشاعر الأنثى. في هذا العمل تقف الكاتبة مطوّلا عند علاقة الأنثى بأبيها، قبل مرحلة البلوغ، واصفة إياه بالغائب الحاضر، مع التركيز بشدة على الهوّة العميقة بينهما، فيما يتعلّق بالتواصل، إلاّ ما ندر من المواقف، كموقف إعادة لويزا بطلة الرواية إلى الحظيرة العائلية، حين فكرت مجرد تفكير بمغادرتها، وقد يكون هذا ما يجعل جسد المرأة في دائرة تملكية غريبة لدى الرجل، بدون حتى الاحتكاك بها أحيانا، فيما يبلغ أحيانا قمّة التصادم، من خلال الاعتداء العنيف، ما يفسّر كل سلوك مريض تجاهها بسبب غياب أي تواصل لغوي بينهما.
في رواية «تاء الخجل» الصادرة عام 2003 عن منشورات رياض الريس ـ بيروت، والتي تلي الرواية السابقة الذكر، ندخل في ثيمة الاغتصاب، من باب الأبوة المعطوبة، العاجزة عن حماية ابنة الثماني سنوات، والتي تموت منتحرة بعد الإلقاء بنفسها من أحد جسور قسنطينة، بمباركة من الأب نفسه، وكأن الحادثة المؤلمة كلها منبثقة من هذا الشرخ الأبوي المفرط في القسوة، قبل أن تتسع لتصبح استراتيجية حرب «أقاليم الخوف»، ونهج قتال في «حرب الأخوة الإيديولوجية»، خلال فترة التسعينيات في الجزائر، منعكسة بشكل مكثف في الخطاب الديني المتطرف، الذي تضع الكاتبة جزءا موثقا منه في نصها، لتوضيح أصول الدعوة التي استباحت جسد المسلمة – بعد إيجاد مبررات لتكفيرها – من طرف المسلم في حالات الحرب المماثلة.
يصنف هذا النص كنص متفرد في السرديات العربية، من حيث الموضوع، ولايزال يثير سجالا جادا وحادا على المستويين الإعلامي والأكاديمي، ولكنني لم أعثر عليه كدراسة شاملة لمجمل الأعمال، وأقصد بذلك الأعمال الثلاثة للفاروق تحت عنوان ثيمة واحدة، كونها في «اكتشاف الشهوة»، و»أقاليم الخوف» الصادرتين عن الدار نفسها، تمضي في المشروع ذاته، مزيحة الستار عن الاغتصاب الزوجي في ظل الشرعية الدينية المتبناة في القوانين المتعلقة بالأسرة في العالم العربي (اكتشاف الشهوة) ثم عن الاغتصاب الأيديولوجي بكل أشكاله على مستوى الداخل والخارج في الفضاء العربي كانتهاك إنساني في أبشع أشكاله «أقاليم الخوف».
فكرة الرواية في اكتشاف الشهوة مبنية على زواج مدبّر، بحيث يتم الزواج/ الصفقة بعقد غريب بين مغترب سبق له الزواج بفرنسية وشابة جزائرية عانس ـ كمجاز لفظي اجتماعي متفق عليه في العالم العربي للتقليل من شأن المرأة غير المتزوجة – يبدو الاتفاق منطقيا ليحصل الزوج على زوجة تقليدية من بلاده، وتحصل العانس على زوج يرفع من مكانتها الاجتماعية، ويمكنها بشرعية كاملة من ممارسة حقوقها الجنسية، بحكم أن لا طريقة أخرى غيرها تمكن المرأة من ممارسة الجنس في ظل المجتمعات المحافظة.
يصنف هذا النص كنص متفرد في السرديات العربية، من حيث الموضوع، ولايزال يثير سجالا جادا وحادا على المستويين الإعلامي والأكاديمي، ولكنني لم أعثر عليه كدراسة شاملة لمجمل الأعمال، وأقصد بذلك الأعمال الثلاثة للفاروق تحت عنوان ثيمة واحدة
تكتشف البطلة التي تُرسَل كأي طرد بريدي لزوجها المغترب، أن الزواج أكبر من كل الطقوس الدينية والاجتماعية التي تظهر للعيان، وأنه أكبر من القبول من الطرفين للدخول في عقر المؤسسة الزوجية، لأنه رباط روحي، يحتاج لكيمياء ناجحة بينهما، وأقصد هنا التفاعلات الجسدية والعاطفية المتكاملة بين الزوجين، وهذا لا يحدث بتاتا بمجرّد اجتماع رجل وامرأة في غرفة مغلقة، ومباركة من طرف العائلتين، إذ تدرك البطلة في تلك المواجهة المتأخرة لاكتشاف جسدها، أن ممارسة الجنس بدون عاطفة عقاب عظيم لنفسها، ولكن طريق العودة إلى حياتها السابقة الطليقة، أصبح غير ممكن، فعقد الزواج بالنسبة للذكر ليس أكثر من عقد ملكية، لهذا يصعب عليها أن تسلم الزوج جسدها، في ما ينفد صبره بعد أسبوع من الانتظار فيغتصبها، لتنتهي مرحلة من حياتها إلى الأبد، وتدخل مرحلة جديدة من الارتباك، ليس فقط في ما يخص ما فقدَتْه من صلاحيات تجاه جسدها، بل في اكتشافها لحقيقة مأساوية، وهي أن الجسد الذي حافظت عليه طويلا، حتى بلغت سن العنوسة، لم ينل المكافأة التي يستحق، ولعل مشهد فض العذرية في هذا النص بالذات، كان أكثر مشهد مأساوي قرأته في حياتي كلها، حين قالت «حاصرني في المطبخ، ومزق ثيابي، ثم طرحني أرضا، واخترقني بعضوه، ورمى بدم عذريتي مع ورق الكلينكس في الزبالة» في غياب كامل للغة الحوار بين الرجل والمرأة.
تنال الرواية أيضا مساحة شاسعة من الاهتمام الأكاديمي، ولكنها توصف دوما بالرواية التي حمّلت الرجل بقسوة مبالغ فيها، حملا ثقيلا من تُهمٍ لا يستحقها، كما وُصفت الفاروق بأنّها تتعمّد أن تصف مشاهد الجنس المُذِلَّة للمرأة، لاستعطاف القارئ، وقد ورد في هذا المعنى كلام كثير حول الرواية في كتب نقدية عديدة، منها على سبيل المثال كتاب «أزمة الجنس في الرواية العربية» للناقد المغربي الداديسي، وأيضا في كتاب «المرأة وتطوير السرد العربي: النسائية، النسوية، الأنوثة» للناقد الأردني محمد معتصم، عن أن فضيلة الفاروق استعملت ضمير المتكلم الذي يعدُّ دليلا على السيرة الذاتية المتخيلة للشخصية الروائية، أي أنه ضمير متكلم مضاعف «وهو ما لم تعتده السيرة الذاتية العربية، إنه اختراق لجدار الصمت، ولجدار التوقع والتلقي، كذلك اعتمادُ الوضوح الصارم والصادم ، لإقرار وقع قائم وقاتم بوعي ثابت وحاد وبألفاظ غير مجاملة».
شيء متفرد تماما في أدبنا العربي، ينهض في الروايات الثلاث للفاروق، ولا يتوقف عند أي سقف، وقد تحدثت معها في هذه النقطة بالذات، عسى أن أعرف تتمة هذا « «الخطاب القتالي» لديها، وإلى أين سيصل، فذكرتني برواية «لا تخبري ماما» للروائية الأيرلندية توني ماغواير الصادرة عن المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء وبيروت بترجمتها العربية، إلى أن موضوع الاغتصاب، ليس مقبولا في كل المجتمعات، ليس كجريمة بل كفِعْلِ إفصاحٍ عنه، لهذا سُئِلت ماغواير عن هدفها من نشر سيرتها البائسة تلك؟ كردة فعل شنيعة تجاه مأساتها، وترى الفاروق أن قضايا النساء الشائكة مثل الاغتصاب تحديدا والتحرش، تخصهن بشكل فردي، لهذا ليس من السهل أن يحصلن على تعاطف المشرعين، بل إن طرحهن لهذه القضايا عبر نتاج أدبي، يقف عند الحدود اللغوية والأشكال السردية وإشكاليات نقدية أخرى كثيرة، بدون التوغل في المأساة الإنسانية التي يحملها. وهذا استخفاف مورس بطرق مختلفة ضد الوجع النسائي في العالم أجمع. مع أنه في نهاية المطاف يجب أن نفهم ونفكر ونقيس كل نص سردي بطريقة لا تنفصل عن السياق الأخلاقي المُنصِف، على الأقل ليرتفع منسوب الغايات الحسنة الممكن تحقيقها من خلال المنجز الأدبي.
أما في ختام حديثنا فقد قالت فضيلة إنها كسبت قرّاء مقاتلين مثلها، متميزين، وشجعانا، قالت بالضبط « قرّائي ليسوا قرّاء متعة، إنهم فعّالون بالمعنى الإيجابي، وسنقطف ثمار عملنا المشترك معا».
٭ شاعرة واعلامية من البحرين
سبب عبقرية عنوان (الاغتصاب كثيمة أدبية)، من وجهة نظري لأن العنوان، يلخص مفهوم عقلية تدوين زواج المتعة في وادي الرافدين، أو العقد العرفي في وادي النيل لأهل ما بين دجلة والنيل،
قبل أي علاقة جنسية بين ثقافة الأنا (الرجل) وثقافة الآخر (المرأة)، حتى لو كانت في تدوين نص أدبي، بأي لغة من اللغات الإنسانية التي تقبل تدينها على أي شيء أو آلة، في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)، والأهم هو لماذا؟!
لاحظت بداية المشكلة تبدأ من تعريف خاطئ (من أن الفلسفة (عقلية/فلسفة المرأة) تعني حب الحكمة(عقلية/فلسفة الرجل))،
والسبب من على أرض الواقع، عندما روسي، يقوم بتغيير جنسه في دولة أخرى، ويعود لروسيا، سيواجه نفس ما واجهه هذه الروسي/الروسية، من منع دخوله إلى دولة الحداثة، بواسطة الموظف في نقطة الحدود،
لأن تصنيف الرجل يختلف في جواز السفر، عن تصنيف المرأة حتى في روسيا الملحدة (الرأسمالية أو الشيوعية) في عام 2020.??
??????
ما يهمّني في مقال هذا الأسبوع ليس المضمون بل الدلالة.ففيه أنّ الدكتورة بروين حبيب تسامت على كثيرمن أنانيّات الكاتبات والكتّاب لتقدّم بسّمو روح ؛ وعلو دوح ؛ وسنام رؤية وغرض شخصيّة أدبيّة وفرّت لها عناصر الدعم في العرض.وهذا لعمري قلما يتأتى في الواقع الأدبيّ العربيّ اليوم ؛ فهو من حلو الكلام ومن مُلح الأقلام…لأنّ الأنانيّة ضاربة سرادقها على النفوس ؛ فكلّ يصول على ليلاه فردًا بظلام ليل ؛ كقول الشاعر : { عَوَى ثمَّ نَادَى هَلْ أَحَصْتُمْ قِلاصَنَا…. وُسِمْنَ على الأَفْخاذِ بالأَمْسِ أَرْبَعَا }. { غُلامٌ أَضَلَّتْه النُّبُوحُ…. فلم يَجِدْ لَهُ بَيْنَ خَبْتٍ والهَباءَةِ أَجْمَعَا }.وصنو أسلوب الدكتورة ذلك الذي نلمسه في الصفحة الثقافيّة بالجريدة أنْها تقدّم الأقلام المغردة الآفاق ؛ ومقياسها النتاج الصادق لا ( المنتج ) ولو حمل الاسم الخفاق.فتطابق الدال والمدلول باتفاق… التقدير لمنْ ( قلب ) الاغتصاب القسريّ على النساء إلى قضيّة ورسالة أخلاقيّة ؛ في أعمال روائيّة ؛ لتكون بلسمًا للمغدورات…إنه انتصارحضاريّ لمدينة الجسد الذي انطوى فيها العالم الأكبر؛ على جسد المدينة ؛ الغارق كالطحالب في قاعها الآسن الحفر.