تونس ـ «القدس العربي»: يعيش التونسيون على وقع أزمة اقتصادية صعبة، ولئن لم تكن وليدة اليوم بل تعود لرواسب السياسات الاقتصادية المتعثرة طوال الأعوام الماضية، إلا ان حالة عدم اليقين المسيطرة على المشهد الراهن زادت من المخاوف بشأن الوضع الاقتصادي المتأرجح ومآله.
لقد أمل فريق من التونسيين يوم 25 كانون الثاني/يناير عندما أقدم رئيس الجمهورية قيس سعيد على تجميد البرلمان وحل الحكومة وجمع السلطات جميعا بيده في أن تتحسن أوضاعهم المعيشية نحو الأفضل بانتعاشة اقتصادية عجز عن تحقيقها حكام العشرية الماضية. لكن مع مضي الوقت بدأ اليأس يدب في أوصال الكثيرين بعد انصراف الحكام الجدد وعلى غرار سابقيهم إلى التفكير في الإصلاحات السياسية، وتهميش كل ماهو اقتصادي واجتماعي، رغم أن الأوضاع لم تعد تحتمل إضاعة المزيد من الوقت في النقاشات السياسية.
ورغم أن إعطاء الأولوية للمسائل السياسية كان بضغط من المعارضة ومن الخارج الذي اشترط مساعدة تونس اقتصاديا بمواصلتها لبنائها الديمقراطي، إلا أن التونسيين لا يبدو أن لديهم الإستعداد لمزيد الانتظار لسنوات أخرى. ومن خرجوا يوم 17 كانون الثاني/يناير 2010 ثم يوم 25 تموز/يوليو 2021 احتجاجا على تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بإمكانهم الخروج مجددا ضد الحكم الجديد ما لم يلب لهم الرئيس قيس سعيد مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية.
تباطؤ النمو
إن أكثر ما يزعج التونسيين هو التقارير الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية، فهي في أغلبها صادمة ومرعبة شأنها شأن تصنيفات وكالات الإئتمان السيادي، التي تخفض في كل مرة من تصنيف تونس السيادي حتى وصل البلد إلى الحضيض اقتصاديا ولم يعد يحظى بثقة المؤسسات المالية الكبرى. ولم يشذ تقرير البنك الدولي الصادر مؤخرا عن القاعدة ودق ناقوس الخطر بشأن الاقتصاد المنهار الذي أوصله سوء التصرف خلال العشرية الماضية إلى هذا الوضع المزري الذي لم يألفه التونسيون.
فقد توقع البنك الدولي تباطؤ نمو الاقتصاد المحلي خلال السنة الماضية، وأكد على تسجيل الثلاثية الأخيرة من سنة 2021 ارتفاعا في نسبة البطالة من 15.1 في المئة إلى 18.4 في المئة وهو ما سيؤثر سلبا على أوضاع الشباب في المناطق الداخلية بحسب ما جاء في تقرير البنك. فمن الطبيعي أن تساهم البطالة في ارتفاع نسبة الفقر بعد أن تخسر كثير من الأسر مواطن شغل كانت مصدر دخل لمن يساهم في نفقاتها وذلك في ظل الارتفاع المشط في الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
لقد بات الاقتصاد التونسي رهينة بيد المؤسسات المالية الدولية الكبرى بسبب التداين المبالغ فيه طيلة العشرية الماضية وهو ما جعل تقارير هذه المؤسسات تصدر بعبارات تحمل في طياتها وصاية على هذا الاقتصاد المنهك. فقد جاء في التقرير الأخير على سبيل المثال أن على تونس أن تجري إصلاحات هيكلية حاسمة وتحسن مناخ الأعمال، وتحدث فرص شغل للشباب، من دون أن يوضح كيف السبيل إلى تحقيق ذلك، وماهي الآليات المعتمدة.
كما أكد على أن تونس لن تكون قادرة خلال هذا العام على تسديد الدين العام الذي تراكم نتيجة كثرة التداين خلال العشرية الماضية وبصورة لافتة، ولم تذهب هذه الأموال في التنمية وإلى إنشاء المشاريع الكبرى التي تعود بالنفع على البلد. لكن البنك أكد على أنه بالإمكان أن تتحسن الأوضاع وتتمكن تونس من خلاص أقساطها إذا قامت بإصلاحات مالية عمومية واقتصادية وصفها بالحاسمة وتتعلق هذه الإصلاحات على ما يبدو بتخفيض نفقات صندوق الدعم والضغط على كتلة أجور الوظيفة العمومية، وحسن التصرف في المؤسسات العمومية.
كما توقع البنك الدولي أن يسجل الاقتصاد التونسي نسبة نمو 3 في المئة خلال العام الماضي، بعد أن عانى من ويلات انكماش تجاوز 8 في المئة في سنة 2020 وهو ما اعتبره البعض مؤشرا إيجابيا يبعث على التفاؤل ويمكن البناء عليه لتحسين الأوضاع في المستقبل. لكن هذا التفاؤل يصطدم بالإعلان رسميا من قبل الحكومة عن وجود عجز في الميزانية المقررة لهذا العام يقدر بـ 6.7 في المئة وهو ما يعني أنه على هذه الحكومة أن تسابق الزمن لتحصيل موارد مالية جديدة لضخها في الميزانية.
موارد هامة
ولعل من الموارد التي سيعتمد عليها الاقتصاد لتغطية العجز في الميزانية هذا العام، القرض المتوقع الحصول عليه من صندوق النقد الدولي والمقدرة قيمته بـ 4 مليارات دولار والذي سيكون متبوعا بجملة من الشروط تمس من الصبغة الاجتماعية للدولة وتلقى معارضة من الاتحاد العام التونسي للشغل. ومن بين هذه الشروط التخفيض في أعداد المنتمين إلى الوظيفة العمومية من خلال تسريع التقاعد المبكر وأيضا رفع الدعم عن عديد السلع والمواد المدعمة وخصخصة بعض المؤسسات العمومية أو بيع أسهم فيها للقطاع الخاص لإيجاد موارد إضافية.
وتعتزم الحكومة تخفيض معدل الفائدة على القروض المخصصة لشركات التمويل وتشجيع الاقتصاد التضامني من خلال دفع المستثمرين باتجاه بعث مشاريع في مجال ما يعرف بـ«الاقتصاد الأخضر». كما تتجه النية إلى دمج الاقتصاد الموازي في المنظومة للاستفادة من السيولات المالية التي يوفرها باعتباره يمثل 60 في المئة من الاستثمارات والأموال المتداولة.
كما أن الصلح الجزائي مع رجال الأعمال قد يوفر للدولة سيولة مالية غير مباشرة تضخ مباشرة في الجهات في شكل مشاريع استثمارية تساهم في تخفيض نسب البطالة في هذه الجهات التي تعاني من غياب التنمية. وقد دعا ساكن قرطاج نفسه رجال الأعمال المتورطين في الاستيلاء على المال العام إلى الانخراط في هذا الصلح الإستثنائي القائم على أساس التنمية في الجهات مقابل العفو.
عودة نسق التصدير
ولعل ما يمكن أن يبعث بعض الأمل لدى التونسيين هو تحسن نسق تصدير مادة الفوسفات خلال الثلاثية الأخيرة من سنة 2021 بعد شلل أصاب إنتاج هذه المادة الحيوية طيلة العشرية الماضية وانعكس سلبا على الصناعات الكيميائية في البلاد التي تعتمد على هذه المادة. فقد تم إنتاج قرابة 3.8 مليون طن بنهاية العام الماضي وذلك لأول مرة منذ سنة 2010 التي كان فيها الإنتاج يصل إلى 8.2 مليون طن وهو ما جعل تونس يومها تحتل المركز الثاني عالميا في إنتاج هذه المادة.
كما ارتفع الإنتاج من النفط مع نهاية سنة 2021 ليبلغ 1.8 مليون طن مسجلا ارتفاعا بنسبة 26 في المئة مقارنة بنفس الفترة من عام 2020 حيث بلغ الإنتاج 1.4 مليون طن. وارتفع إنتاج الغاز حيث بلغ 150 ألف طن مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 مقابل 135 ألف طن خلال الفترة ذاتها من سنة 2020 وهو ما جعل شراءات تونس من الجزائر تنخفض بنسبة 20 في المئة إلى حدود نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
وينتظر التونسيون مداخيل هامة من تصدير المنتوجات الفلاحية على غرار زيت الزيتون الذي تتنافس على المرتبة الأولى عالميا في إنتاجه وتصديره مع كل من إسبانيا وإيطاليا. وخصصت الخضراء هذه السنة 200 ألف طن للتصدير باتجاه الأسواق الأوروبية التقليدية والولايات المتحدة الأمريكية وعديد الدول الأخرى في العالم باعتبار جودة زيت الزيتون التونسي وقدرته على المنافسة.
كما بدأ تصدير التمور التي احتلت تونس في إنتاجها وتصديرها المرتبة الأولى عالميا في السنوات الأخيرة وتنتج منها حوالي 200 نوع من أهمها «دقلة النور» و«الفطيمي» و«لخوات» و«الكنتة» و«العليق». وبدأ أيضا موسم تصدير القوارص أو الحمضيات من برتقال وغيره، وهو منتوج هام يدر على البلاد مداخيل هامة من العملة الصعبة ويتميز بجودته العالية. وهناك المداخيل المتأتية من السياحة والإنتاج الصناعي الموجه للتصدير والتي بإمكانها التخفيف من لجوء الدولة المفرط إلى التداين دون الاعتماد على الذات.