الحرب الدائرة في أوكرانيا لا تنحصر دوائرها بالجانب العسكري فحسب، بل لها تجليات أخرى خصوصا في الميدان الاقتصادي. ومنذ اندلاعها قبل أكثر من شهرين كان الغربيون يبحثون عن وسائل لمحاصرة روسيا اقتصاديا، لكن حال دون التحقيق نجاح واسع في هذا المجال اعتماد الأوروبيين على النفط والغاز المستوردين من روسيا، واللذين بدونهما ستحدث أزمات اقتصادية ومعيشية لهذه الدول. ولا شك أن موسكو تدرك ذلك وتسعى من جانبها لاستعمال الاقتصاد والمال سلاحا في الحرب. وتمثل العملة العامل الأقوى في أية حرب اقتصادية بين الدول. ويؤدي هبوطها لتداعيات خطيرة على اقتصادات الدول، اذ ينجم عنها ارتفاع أسعار الواردات وتلاشي القدرة الشرائية لدى المواطنين ويتصاعد التضخم وتراجع ثقة العالم الخارجي في اقتصاد الدولة. وينعكس ذلك بشكل مباشر على مؤشرات الاقتصاد من حيث النمو او الانكماش. وكانت العملة الروسية (الروبل)، منذ بداية الأزمة، هدفا للقوى الغربية خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما الأكثر حماسا لتحقيق أمرين: هزيمة روسيا في الحرب، وإضعافها استراتيجيا، وهما هدفان معلنان وليسا سريين. ولذلك فإن النزاع الذي يبدو محدودا حتى الآن مرشح للتصاعد الخطير جدا، لأن روسيا تواجه خطر الهزيمة، وإن حدث ذلك فلن تكون هزيمة محدودة بل شاملة، قد تلغيها كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكي تحافظ موسكو على تماسك اقتصادها، أصبحت تملي شروطا على الدول الأوروبية، منها أن تدفع ثمن النفط والغاز بالروبل وليس الدولار. وقصة هيمنة العملة الأمريكية على الاقتصاد العالمي طويلة، فهي تمثل تحديا حقيقيا ليس لروسيا فحسب بل لأغلب الدول ذات الكثافة السكانية والاقتصادات الكبرى التي ترى نفسها في صراع او منافسة مع أمريكا. فالصين مثلا والهند وإيران بالاضافة لروسيا ترى نفسها أسيرة للنظام المصرفي العالمي وتشعباته. فاذا كان الدولار الوجه الأبرز للمعاملات الدولية فإن التحويلات المصرفية العالمية محكومة كذلك من قبل الخزانة الأمريكية التي تتحكم في النشاط المصرفي العالمي، عبر آليات مثل «سويفت» و «أيبان». فبدون هاتين الآليتين لا تستطيع المصارف إكمال معاملاتها وتحويلاتها المالية. وكثيرا ما استخدمت هذه الآليات للضغط على الدول المناوئة لأمريكا. وتشمل العقوبات الاقتصادية أحيانا حرمان الدول من استخدام تلك الآليات. فإيران مثلا محاصرة تماما منذ انتصار ثورتها في العام 1979 تقريبا، ولا تستطيع مصارفها إجراء المعاملات العادية مع مصارف الدول الأخرى.
في الأسبوع الماضي وافقت ألمانيا على الشرط الروسي بدفع ثمن النفط الذي تزوده لألمانيا بالروبل عبر آلية خاصة. فشركة الغاز الروسية الأساسية «غازبروم» ستستلم الاموال بالدولار، وستسلمها للحكومة الروسية بالروبل. هذه الآلية ضمنت لروسيا إبقاء عملتها ضمن عمليات التبادل التجاري وحافظت على قيمتها من الانهيار. وبموجب هذه الآلية استمر العديد من الدول الأوروبية في استيراد النفط والغاز الروسيين اللذين يعتبران ضرورة لاستمرار اقتصادات هذه الدول. وهكذا يتأكد دور العملة في الصراعات السياسية والعسكرية. ولولا النفط والغاز لربما واجهت روسيا أزمات اقتصادية كبرى تحول دون قدرتها على ممارسة التعامل الاقتصادي خارج حدودها. ويبدو حتى الآن أن روسيا، بهذه السياسة، ضمنت استقرار اقتصادها وعملتها، فهي تعلم أن تردي اسعار العملة مؤشر واقعي لتراجع الاقتصاد. وهذا ما حدث لإيران بعد الثورة وما تزال تعاني منه، حيث تراجعت أسعار عملتها تدريجيا نظرا لعدم قدرتها الحصول على اسعار مبيعاتها النفطية بالدولار. ولهذا الدور قصته كذلك. فقد أصبح العملة الاساسية في العالم وفقا لاتفاقية «بريتون وودرز». تمت هذه الاتفاقية في العام 1944 (خلال الحرب العالمية الثانية) بحضور 44 دولة في مدينة أمريكية بهذا الاسم بولاية «هامبشير». في ذلك المؤتمر تم التخلي عن استخدام الذهب كضامن لعملات الدول، واستبدل بالدولار كعملة أساسية للمخزون الاحتياطي النقدي للدول. وفي ضوء ذلك قامت الدول بتحديد قيمة عملتها وربطها بالدولار الأمريكي، مع أنه ليس العملة الأقوى في العالم. لكن تجربة روسيا بعد حرب القرم في العام 2014 أثبتت عدم جدوى الاعتماد على الاحتياطات النقدية من الدولار. فقد جمدت تلك الاحتياطات ولم تستطع روسيا الاستفادة منها عند الحاجة. وطوال العقود الثمانية الماضية كرست أمريكا موقعها الدولي، وسيطرت على النظام المصرفي العالمي وآلياته، فأصبحت قادرة على استهداف الدول اقتصاديا متى شاءت.
وهنا تتكشف أمور عديدة: أولها دور العملة في ضمان استمرار اقتصادات الدول وانتعاشها، وأنها لا تقل أهمية عن وسائل القوة الأخرى. ثانيها: أن استهداف العملات سلاح تستخدمه الولايات المتحدة لاضعاف قدرة مناوئيها على البقاء بفاعلية ضمن الآليات المالية الدولية. ثالثها: أن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي كان وما يزال مصدر قلق للدول غير الصديقة لأمريكا، بل حتى اصدقائها في أوروبا، وان هذه الدول كثيرا ما فكرت في تجاوز الدولار او طرح عملة عالمية بديلة. رابعها: أن العملات التي اقترحت ومنها اليورو الذي حل محل العملات الخاصة بدول الاتحاد الأوروبي، لم تستطع حتى الآن إقصاء الدولار عن موقعه على الساحة الاقتصادية والمالية الدولية. ويعتبر اليورو من أنجح العملات البديلة منذ أن طرح التداول به في 1999. خامسا: أن الدول غير الصديقة لأمريكا لم تنجح حتى الآن في استبدال الدولار وإقصائه من معاملاتها الدولية. وسبق أن اقترحت عملة بديلة من قبل دول كالصين وإيران لكن أيا من هذه المحاولات لم ينجح. سادسا: أن نمط تبادل السلع بين الدول حقق شيئا من النجاح، لكنه لم يستطع إقصاء الدولار تماما. وبموجب هذه الآلية يتم تبادل النفط بسلع أخرى، أو تستخدم عائداته لشراء السلع من الدولة المشترية بدلا من إرسال النقد إلى الدولة البائعة.
وقد حدثت محاولات عديدة لتجاوز الدولار. ولجأت دول عديدة لامتلاك احتياطات نقدية بعملات أخرى مثل اليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني واليوان الصيني، فانخفضت نسبة سيطرة الدولار على الاحتياطات النقدية من 70 إلى 59 بالمائة خلال العشرين عاما الاخيرة. وحاولت دول أخرى لطرح عملة مشتركة بديلة، لكن لم تنجح تلك المحاولات. وفي السنوات الأخيرة طرحت الصين فكرة العملة الرقمية (بيتكوين) التي بدأت تأخذ مداها، لكن يصعب التكهن بمدى قدرتها على استبدال الدولار في المستقبل المنظور. ويشعر الخبراء الاقتصاديون بقلق عميق إزاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وقد بدأ بعضهم يدعو للبحث عن بديل. ففي2019 أكد مارك كارني، محافظ بنك إنكلترا الحاجة إلى استبدال الدولار. جاء ذلك أمام مؤتمر عقد ببلدة جاكسون هول الأمريكية بمشاركة محافظي البنوك المركزية من جميع أنحاء العالم. واقترح أن يكون هذا البديل عملة رقمية بعد أن اصبح الدولار عائقا لحدوث انتعاش اقتصادي عالمي مستدام. وتستطيع دولة مثل الصين أن تكثف جهودها لتخفيف القيود التي تمثلها هيمنة الدولار الأمريكي على الأنظمة المالية الدولية. والشعور بضرورة البحث عن بديل تشترك فيه كبرى بنوك الاستثمار العالمية مثل غولدمان ساكس، وكريدي سويس، وجي بي مورغان بالاضافة للبنوك الصينية والروسية والهندية. وقبل أسابيع فحسب، أشارت السعودية إلى إمكان قبول اليوان الصيني بدلا من الدولار في مبيعات النفط للصين. ورأى بعض الخبراء أن السماح بدفع مدفوعات النفط باليوان قد يمهد الطريق أمام إنشاء نظام مواز للمدفوعات الدولية يحتل فيه اليوان الصيني أهمية وقوة على غرار الدولار الأمريكي. وبرغم ما يبدو من صعوبة استبدال الدولار، إلا أن التقلبات السياسية والأزمات تتطلب جهودا كبرى من الدول ذات الاقتصادات الناهضة مثل الصين والهند واليابان والاتحاد الأوروبي للبحث عن عملة للاحتياطات النقدية العالمية تنهي الهيمنة المطلقة للدولار الأمريكي. وليس مستبعدا أن يكون ذلك من ضمن مخاضات الأزمة الأوكرانية المتصاعدة.
كاتب بحريني
كل عام و أمتنا الإسلامية بألف خير…
تحية للأخ سعيد..
ما شاء الله ، مقال موجز واضح متماسك غير مشتت ، غير مطول ، يشرح آلية
السوق الإقتصادي الدولي الحالي السائد بشكل سهل مفهوم لا لبس فيه…
أتمنى لبقية المقالات في
قدسنا العربي أن
تكون بهذا المستوى الواضح البعيد ‘إلى حد كبير’ عن الدعاية
الإعلامية المغرضة
الساعية للترويج لأفكار
معينة مشبوهة.. ، أو التحريف و التشكيك في حقائق ثابتة.. ،
إلى الأمام…
بارك الله فيك على هذه الإطلالة. شكرا دكتور
بالنسبة لعالمنا الإسلامي ،
و هو ما أكترث له أكثر من غيره ، لا أظن أن هنالك
فرق بين ‘بيتكوين’ أو
‘دولار’ أو ‘يورو’ أو غيره… لأنه بذلك ستبقى هنالك تبعية لأمم غير إسلامية
لا تريد لهذه الأمة أن
تنهض أبدا.. و لا تريد لها
خيرا.. بل و تناصب أمتنا العداء العلني.. و لا تزال تسعى للهيمنة المطلقة على كافة الأصعدة…
و على أمور حياتنا.. ما استطاعت إلى ذلك سبيلا…
ما موقع الدول العربية في كل هذا؟
هل فكرة عملة عربية مو حدة هي فكرة قابلة للتجسيد؟