الرباط ـ «القدس العربي»: يحتلّ تشخيص واقع الاقتصاد المغربي واقتراح الحلول لتجاوز أعطابه وتوفير التنمية الشاملة حيزا كبيرا في صفحات «الوثيقة السياسية» التي أصدرتها جماعة «العدل والإحسان» المغربية هذا الأسبوع، حيث مهّدت للمحور الاقتصادي بالإشارة إلى ما يزخر به المغرب من طاقات بشرية وموارد طبيعية هامة، إذ رغم تراجع معدل الخصوبة فإن الهرم السكاني ما زال يتسم باتساع قاعدته من الشباب، كما يتوفر المغرب على ساكنة نشيطة تمثل فيها النساء نسبة مهمة ترسخ مكانتهن في المجتمع يوما بعد آخر، يؤكدها تفوقهن الدراسي وتحملهن للعديد من المسؤوليات والوظائف الأساسية. ويمتلك المغرب حوالي 70 في المئة من الاحتياطي العالمي من الفوسفات، وثروة معدنية لا يستهان بها. ورغم تهديدات التغيرات المناخية، يتوفر البلد على مخزون مائي جيد، وتمتد جغرافيته على واجهتين بحريتين تجعل منه بلدا استراتيجيا من حيث الموقع، كما تزخر مسطحاته المائية من بحر ومحيط بثروة سمكية استثنائية.
وحسب الوثيقة السياسية للجماعة المذكورة، فإنه رغم الامكانيات المهمة التي يتوفر عليها المغرب، فإن اقتصاده ما زال يعاني اختلالات هيكلية كبرى، وأرجعت ذلك إلى «قصور الاختيارات والسياسات العمومية المتبعة منذ الاستقلال وذلك بشهادة الاعترافات الرسمية والتقارير المتوالية لمؤسسات وطنية ودولية».
وأجملت أبرز تلك الاختلالات في التركيز الشديد لرؤوس الأموال ووسائل الإنتاج والأراضي في يد عائلات وفئات وشركات «استفادت من اقتصاد الريع والتوزيع غير العادل للأراضي والثروات والامتيازات، في مقابل انحسار كبير للفرص المتاحة لباقي الفاعلين والمستثمرين الصغار والمتوسطين، يزيد ذلك تفاقما التضييق الممنهج وآفة البيروقراطية والفساد والرشوة».
وأضافت أن النسيج الاقتصادي المغربي يعاني تغول الاقتصاد غير المهيكل (غير المنظم) إذ تشير تقديرات بنك المغرب إلى أنه يمثل 30 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي إلى حدود سنة 2018. كما تشير تقديرات أخرى لمؤسسات وطنية ودولية، إلى أن ما بين 60 في المئة و80 في المئة من الساكنة النشيطة المشتغلة تمارس نشاطا غير مهيكل.
واعتبرت الوثيقة أنه «إذا كان الجزء الظاهر من الاقتصاد غير المهيكل يتمثل أساسا في الوحدات الصغيرة التي تشغل عمالا دون التصريح بهم وتنتج سلعا وخدمات، وتتهرب عمدا من التزاماتها الضريبية والقانونية، فإن الجزء الآخر الذي هو نتاج منظومة الفساد والريع والبحث عن الإثراء غير المشروع، يشمل التهريب والأنشطة الخفية للمقاولات الرسمية، مثل عدم التصريح برقم المعاملات الكلي وعدد العمال الحقيقي، إضافة إلى المنافسة غير الرسمية، حيث تتهرب بعض الشركات عمدًا من التزاماتها على الرغم من امتلاكها الموارد والهياكل اللازمة للوفاء بها».
ارتفاع معدل البطالة
أدت هذه الوضعية ـ حسب الوثيقة المذكورة ـ إلى استمرار اغتناء العائلات النافذة وتفقير شرائح عريضة من المجتمع، مع استمرار تراجع المؤشرات الماكرو اقتصادية من قبيل التزايد البنيوي والمطّرد لمستوى العجز التجاري وعجز الميزانية، وتفاقم المديونية، وارتفاع معدل البطالة، وتنامي ظواهر الفقر والهشاشة، واستمرار اعتماد الاقتصاد على التساقطات المطرية، واتساع رقعة الاقتصاد غير المهيكل، وتركيز مجالي كبير للنشاط الاقتصادي، واستمرار وضعية العزلة التي تعيشها معظم المناطق، وضعف البنيات التحتية في جل المجالات الترابية غير الساحلية، وخاصة منها العالم القروي (الأرياف).
يعزز ذلك ضعف التدريب التقني والمهني وعدم تشجيع الابتكار والبحث العلمي ومحدودية الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة، وعدم كفاية التأطير العملياتي والإداري لدى الشركات الصغرى والمتوسطة، ولدى الحرفيين والمزارعين وأصحاب المهن الحرة، وتلكؤ القطاع المالي في دعم المبادرة الحرة في القطاعات المنتجة واقتصاد المعرفة والابتكار، وضعف مستوى نجاعة الاستثمار، وتآكل الطبقة المتوسطة وتراجع أدوارها التنموية، وضعف دور الدولة في مراقبة معايير الجودة والصحة والسلامة والتتبع والتقييم وغياب الحماية الاجتماعية لدى شرائح واسعة من المواطنين.
ولبلوغ المقاصد التنموية من النشاط الاقتصادي، أكدت الوثيقة السياسية لجماعة «العدل والإحسان» أنه لا بد من توفر إرادة حقيقية، وتضافر جهود كل الفاعلين، واستثمار الفرص المتاحة، وحسن استعمال المقدرات المتوفرة من رأسمال بشري وموارد وثروات والعمل على بناء اقتصاد تكافلي قوي ومنتج.
وأوضحت أنه يتعين أن تشارك الدولة في هذا البناء، لما لها من دور محدد في علاج الأزمات والدورات الاقتصادية السيئة التي تحدث من حين لآخر، كالبطالة والتضخم والانكماش الاقتصادي، وفي محاربة بعض المعضلات مثل الاحتكار والغش، إذ يجب ألا ينحصر دور الدولة في عمليات التوجيه والحفز والمواكبة، بل من واجبها إنتاج السلع والخدمات الاجتماعية، خاصة ما يتعلق بالمرافق الأساسية من أمن وعدالة وصحة وتعليم وبنيات تحتية وغيرها.
وتابعت «يعضد القطاع الخاص جهود الدولة في هذا البناء، إذ من الضروري حفزه، باعتباره منتجا للثروات ومشغلا للكفاءات ومساهما في بلورة وتنزيل الاستراتيجيات المعتمدة في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمتكاملة. وبالإضافة إلى الفاعلين الاقتصاديين الأساسيين، وبالنظر للدور المتنامي عبر العالم لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فإن الاهتمام بهذه المؤسسات أصبح ضرورة ملحة».
وأردفت قائلة «إذا كانت الجمعيات والتعاضديات تقوم بدور رئيسي في تدبير الظواهر الاجتماعية من خلال إدماجها في تدبير التضامن الاجتماعي، فإن التعاونيات يمكن أن تشكل نموذجا تنظيميا مهما في توليد الثروة، وفي الحد من الريع وثقافة الاسترزاق غير المشروع».
بناء اقتصاد قوي ومتوازن
وقالت جماعة «العدل والإحسان» إنه للخروج من الوضع الاقتصادي الراهن وتحقيق المرتكزات الأساسية للتنمية الشاملة، فإن الحل مشروط بتضافر جهود جميع الفاعلين لتصحيح الأعطاب البنيوية الكبرى للاقتصاد الوطني المغربي، وبناء اقتصاد قوي ومتوازن، يضمن العيش الكريم لجميع المغاربة، ويقوى على الصمود أمام المنافسة العالمية والصدمات الخارجية.
ثم بسطت منظورها للتطور الاقتصادي المنشود وفق المرتكزات الأساسية التالية:
ـ اقتصاد مسؤول، يكون في خدمة الإنسان ويلبي الحاجيات الأساسية من حق في الولوج إلى الغذاء الكافي والمتوازن والسكن الكريم، والملبس والنقل والتعليم والعناية الصحية والحماية الاجتماعية، ويضمن الفرص الاقتصادية المتكافئة بين الجميع، ويحافظ على البيئة، ويثمن الثروات الطبيعية، ويرشد الاستغلال ولا يرهن مستقبل الأجيال لممارسات غير مسؤولة. وهو اقتصاد يتيح للمواطن من الوقت والإمكانات ما يساعده على تحقيق العبودية لله عز وجل. فلا يجعل الإنسان آلة أو يجعله يلهث وراء حاجيات ورغبات مادية لا تنتهي.
ـ اقتصاد العدل الذي يمنح للجميع فرصا متكافئة للمساهمة في إنتاج الثروة والاستفادة منها عبر آليات التوزيع المنصفة والمتاحة أو الممكن ابتكارها، وتوزيع مجالي متوازن، ورعاية اجتماعية كافية.
ـ اقتصاد منفتح على العالم، يستفيد من الفرص المتاحة في الأسواق الدولية، لكن يضمن استقلالية البلد والمجتمع عبر الاعتماد على المنتج المحلي الطلب الداخلي.
ـ اقتصاد تنافسي يُقوّي الاستثمار ويُحفز على الجودة والابتكار، بعيدا عن كل أشكال الاحتكار واستغلال النفوذ والتفضيلات غير المشروعة، انطلاقا من إطار قانوني واضح وجهاز مؤسساتي فعال في مراقبته لمدى احترام شروط التنافسية ومعاييرها.
ـ اقتصاد أخلاقي، تتسم عملياته بالتيسير والسهولة والمرونة، ويتصف العاملون فيه بالصدق والإخلاص والإتقان والإنصاف والعفو والسماحة والإيفاء بالعهد. إذ تعتبر هذه الفضائل الأخلاقية أساسية في زرع الثقة وتجذرها في العمليات الاقتصادية، مما يؤدي إلى ارتفاع أداء الاقتصاد وفعاليته في الحد من الفقر والهشاشة والتعاسة وما إلى ذلك من الأمراض الاجتماعية والنفسية.
ـ اقتصاد المعرفة، عبر نهج استراتيجية تروم تأهيل رأس المال المعرفي، وذلك بالاستثمار الجيد في البحث والتطوير والتعليم والتدريب ونماذج الإدارة الجيدة، إذ أصبحت الاتصالات وتقنية المعلومات والأنشطة الرقمية والأنشطة المبنية على المعرفة تؤدي دورا أساسيا في عمليات إنتاج السلع والخدمات في مختلف المجالات من مال وأعمال وسياحة وتأمين ونقل ومواصلات وأضحت أهميتها تزداد بوتيرة سريعة في تنافسية الاقتصادات.
برامج
استراتيجية تشاركية
ولتنفيذ هذه المرتكزات تقترح «الوثيقة السياسية» جملة من الإجراءات تندرج في ثلاثة أقطاب، أولها يهدف إلى اقتراح معالم كبرى لسياسة اقتصادية تروم دعم وتقوية نقاط قوة النسيج الاقتصادي القائم، والتصدي للمعيقات التي تحول دون تطوره، وذلك من خلال تعزيز المؤشرات الماكر واقتصادية، وبلورة برامج استراتيجية تشاركية ومندمجة من شأنها أن تشكل رافعات جديدة للنهوض بالاقتصاد الوطني، والتأسيس لنماذج جديدة من المشاريع المهيكلة، تهدف إلى إحداث دينامية استثمارية جديدة تقطع مع الريع وتدعم روح المقاولة.
ويتمثل القطب الثاني في تطوير المنظومة التمويلية وتخليصها من الهاجس المالي الضيق وربطها بمتطلبات التنمية، إذ من الضروري فتح آفاق تمويلية جديدة ومبتكرة، من أهمها الزكاة والأوقاف التي يحتفظ التاريخ المغربي بصور مشرقة لها. كما أنه من الضروري تجديد وترشيد باقي المصادر التمويلية الأخرى لتصب في تحقيق تنمية مستدامة.
أما القطب الثالث فيهدف إلى رسم بوصلة النمو الاقتصادي في اتجاه تكريس الدولة الاجتماعية التي تضمن الخدمات الاجتماعية الأساسية والحاجيات الضرورية لجميع المواطنين من دون استثناء. فلا جدوى من انتعاش اقتصادي لا يساهم في خفض معدلات البطالة، وتوفير التنمية المجالية، وإعداد التجهيزات والبنيات التحتية المستحقة، وتوفير وتنويع عروض ومسالك الارتقاء الاجتماعي.