ابتداء من سؤال بسيط هو عنوان كتابها: «من طبخ عشاء آدم سميث» تقوم الكاتبة السويدية كاترين ماركل بتفكيك خرافات علم الاقتصاد الحديث، وتقشّر، مثل امرأة في مطبخ، قشرة وراء أخرى، قضايا معقدة، من الاقتصاد إلى السياسة، ومن الثقافة إلى الاجتماع، ومن الرياضيات إلى النسوية، بأسلوب بديع ومبهج أكثر ما يميزه أنه شديد السخرية.
كتب سميث مؤسس علم الاقتصاد، في عام 1776، فقرة شكلت فهمنا الحديث للاقتصاد: «نحن نحصل على غذائنا من الجزار، ومن صانع الجعة والخباز، وكذلك الضروريات الأخرى مثل الشمعدان، إلا أن هؤلاء لا يفعلون ذلك من منطلق حبهم لنا، لكن من أجل خدمة منافعهم الخاصة من خلال هذه المقايضة». انبنى على ذلك، أنه عندما يسمح للسوق أن تكون حرة، سيدور الاقتصاد مع المنفعة الخاصة كالساعة، ومع عمل الجميع لتحقيق منافعهم الخاصة، سيتمكنون من الحصول على السلع التي يحتاجونها، وبفضل هذه الطريقة «يتماسك المجتمع كما لو كانت وراءه يد خفية».
تذكر ماركل محاولة سميث التشبه بنظريات نيوتن «التي غمرت العالم بسعادة طاغية» فبما أن نيوتن كشف قوانين الطبيعة فلا بد، من استعمال النهج نفسه، أن نتمكن من الكشف عن قوانين المجتمع. القوة التي وجدها سميث، لتفعل في المجتمع فعل الجاذبية في النظام الشمسي، هي المنفعة الخاصة.
لماذا حذف عالم الاقتصاد أمه؟
لم يتزوج آدم سميث، وأمضت أمه حياتها ترعاه، فلماذا حذفها من اقتصاده، فلم يسأل: من طهى شريحة اللحم التي تناولها في عشائه؟ في الوقت الذي كتب «أبو علم الاقتصاد» كتابه، وحتى يتمكن الجزار والخباز وصانع الجعة من الذهاب لعملهم، تقول ماركل، كان على زوجاتهم أو أمهاتهم أو شقيقاتهم أن يقضين الأيام والساعات في رعاية أطفالهم، وتنظيف منازلهم، وطهي طعامهم وغسل ملابسهم وتجفيف دموع من يبكي والتشاجر مع الجيران. لم يتطرق سميث لهذا الاقتصاد النادر وغير المعترف به، والنتيجة أن النساء أصبحن غير مرئيات في الإحصاءات الاقتصادية، وما كن يفعلنه لم يعتبر مهما للاقتصاد أو النمو، وكانت النتيجة، وجود جنس «غير مرئي» بعيدا عن متناول «اليد الخفية»!
تشرح المؤلفة كيف تكوّن مفهوم «الرجل الاقتصادي» الذي حكم تفكير الاقتصاديين، وكيف ساهم في افتتانهم بقصة «رجل عنصري أبيض عاش بمفرده 26 عاما في جزيرة نائية» (بطل رواية دانيال ديفو «روبنسون كروزو»). أصبح كروزو هو المثال الأبهى لـ»الرجل الاقتصادي المطلق» الذي تقوده «المنفعة الخاصة» بمعزل عن الاعتبارات الأخرى. الاقتصادي المثالي الذي يركز على الملكية وفرض الهيمنة والذي يفعل كل ما بوسعه دوما ليفوز ويدمر كل من يقف في طريقه.
الرجل الاقتصادي كممثل لثقافة الذكورية
تبرهن ماركل أن «الرجل الاقتصادي» الذي ابتكره سميث والاقتصاديون الذين تبعوه يتمتع بالصفات التي تنسبها ثقافتنا، تقليديا، إلى الذكورة. عقلاني، معزول، موضوعي، تنافسي، وحيد، مستقل، أناني، يحكمه العقل ومندفع في عملية غزو العالم. إنه يعرف ما يريد، ويبذل قصارى جهده كي يحصل عليه. كل ما لا يملكه هو: المشاعر، الجسد، التبعية، صلة الرحم، التضحية، العطف، الطبيعة، عدم القدرة على التنبؤ، السلبية، الترابط: وهو ما يرتبط تقليديا بالمرأة.
قام طبيب هولندي يدعى بيرنارد دي ماندافيل في عام 1714 بنشر كتاب يشرح فيه، ساخرا، نظرية المنفعة الخاصة قائلا: «فلنتصور ما يحدث لو كفت فجأة كل ضروب حب التملك والغرور والخيانة والمشاغبة. لو لم يأكل الرجال والنساء الطعام إلا بقدر ما يحتاجون، ولم يلبسوا من الثياب إلا ما يقيهم القر والحر، ولم يغشوا أو يؤذوا بعضهم بعضا، ولم يتشاجروا وأدوا ديونهم دوما، واحتقروا أسباب الترف، لو حدث هذا لتوقف المجتمع كله فجأة». تشبه ماركل فكرة تحول الأنانية بطريقة سحرية لخير الجميع، كما يشرح علم الاقتصاد، بـ»الأسرار اللاهوتية» التي تمنحنا المعنى والغفران، متطرقة إلى فكرة لا تني تتكرر في كتب السياسة والاقتصاد حول دور المصالح الاقتصادية في إنهاء النزاعات بين البشر، وحول قدرة السوق على «إدارة السلام العالمي» (مثل «اللكزس وشجرة الزيتون» لتوماس فريدمان مثلا).
تقدم الكاتبة تحليلا بديعا لتطبيق مفهوم المنفعة الخاصة على علاقات الرجال بالنساء، حيث سمح الرجال لأنفسهم بالتصرف وفقا لهذا المفهوم في الجنس، كما في الاقتصاد، فيما حرمت هذه الحرية على النساء وغدت أحد أشهر التابوهات الاجتماعية العالمية، فهن مكلفات برعاية الآخرين وليس «تحقيق أقصى منفعة خاصة» بهن، وبالتالي، فإذا كان الاقتصاد هو علم المنفعة الخاصة فكيف يكون للمرأة مكان فيه؟ تتابع ماركل المسارات المتعرجة للمدارس الاقتصادية المتلاحقة ونتائجها الكارثية على المجتمعات البشرية، كما حصل مع مدرسة شيكاغو، ذات الأجندة النيوليبرالية الصارمة، التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، واكتشفت أن معادلاتها «تعمل حتى مع النساء»! وبذلك صار يمكن تفسير لماذا تحصل المرأة على أجر أقل هو: «لأن ذلك هو ما تستحقه». وكما سمحت نظريات الاقتصاديين بتبرير الإجحاف في حق المرأة فقد نجحت أيضا في تبرير التمييز العنصري، وتفسير أسباب قلة أجور العمال السود حسب معطيات السوق.
حين دار مشروع النسوية حول الرجال!
ينتهي الأمر باقتصاديي شيكاغو لإحالة الفروقات الاقتصادية إلى البيولوجيا، وهنا تجد المؤلفة فرصة للسخرية من موقف فرويد الذي ربط تنظيف المرأة للمنزل بـ»الأوساخ في المهبل» لتخلص إلى سخافة هذا الرأي علميا. تتابع المؤلفة كيف تم إنتاج عالم من الاستهلاك اللامتناهي والفصل الاجتماعي ما أفرز نخبة كونية صغيرة. تفكر هذه النخبة بطريقة لورانس سمرز، الذي كان كبير اقتصاديي البنك الدولي (ثم وزير مالية بيل كلينتون، ورئيس جامعة هارفارد، ومسؤولا اقتصاديا كبيرا في عهد باراك أوباما) الذي وقع مذكرة داخلية يطرح فيها نقل النفايات السامة إلى دول افريقية. لقد اعتبر الاقتصاديون دائما أن ما هو في صالح الأغنياء والأقوياء هو صالح دائما للاقتصاد.
يستمر تشريح المؤلفة للتطورات الكبرى اللاحقة في ما يخص الاقتصاد والنساء، فترى أن لسان حال النسوية في سبعينيات القرن الماضي، إن النساء أوشكن أن يصبحن الرجال الذين كن يرغبن في أن يتزوجوهن. لقد تحولت النساء من الرغبة في الحصول على رجل إلى الحصول على ما يملكه الرجل، وبذلك بقي المشروع النسوي يدور حول الشيء نفسه: الرجال! تصل المؤلفة إلى المأزق الكبير الذي تحول فيه علم الاقتصاد إلى لعبة نرد، واندمج فيه وول ستريت مع لاس فيغاس، وتغيرت النقود من كونها معادلة لمعادن ثمينة إلى مجرد أوراق يمكن للدول طبع ما تريد منها، وصولا إلى الأزمة الاقتصادية الكبيرة عام 2008، وإلى حلول الخوارزميات المجردة محل جهود الوسطاء في الأسواق المالية، حيث يمكن لخطأ تقني في الخيال المالي إلى الانهيار الكبير التالي. تجاهلت مدارس علم الاقتصاد المتتابعة، حسب ماركل، أن الاقتصاد يعتمد في الأساس على جسد الإنسان، وأنه ليس هناك مجتمع بشري يدار بالجشع والخوف والمنفعة الخاصة والعقلانية فقط، فهذا لن يفلح أبدا.
نكتشف مع كتاب ماركل أن الاقتصاديين كانوا لاهوتيين، حولوا علمهم إلى دين مجرد، وأنهم لم يتجاهلوا النساء فحسب، بل جعلوا نظرياتهم خادمة للأغنياء مما رفع مستويات الفقر، وعجوزات الدول، وفي تفاقم الهوة بين النخب الغنية وباقي المجتمع، كما في تفاقم الهوة بين الدول الغنية والفقيرة.
كاتب من أسرة «القدس العربي»