يولد سؤال الموت مشفوعا بفطرة وبديهية الكائن، ليترعرع في المخيال البشري، ويعظم ويتنامى بتقدم الإنسان في السن، وفقا لما تقتضيه هذه الدورة الوجودية الكاملة، بين ضفتي الولادة والفناء، ونجد المقدس، وقد فصل في هذه المسألة، تماما مثلما تورد فحوى ذلك الآية 54 من (سورة الروم) «اللهُ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُم جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوةً ثُم جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةٍ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». وهكذا يأخذ مُنحناه توجها تصاعديا، ما بين الجذور الطبيعية الأولى، والحالات المرضية المترجم لأعراضها مشهد التوغل في مرحلة الكهولة، وهو ما يبرر إلى حد ما بعض السلوكيات النشاز التي تتم ملاحظتها لدى الكثير من العجزة، من تصابٍ واشتعال حنين إلى الطفولة الأولى في أينع طقوسها، بحيث تفضل الذاكرة، المنفذ الوحيد المخول لاسترجاعات وجدانية، مغرقة بتفاصيل الطفولة البعيدة بالأساس، كمتنفس ومضاد لقساوة لحظات قد يهيمن فيها الإحساس بدنو الأجل، وتتوهج لديها هواجس الموت. هذا عند عموم البشر، لكن ماذا بالنسبة إلى طينة أو سرب الغاوين، المنتمين إلى عوالم الشعر بدرجة أولى؟
الانتحار الفعلي
فما المصدر الذي يمثل الوقود الأساسي لهذه الحالة، إذ تتطور وتتفتق عن منبت نواميسها وفطرتها وصورتها الأصلية، لتلج خندق الفوبيا الذاتية المتسببة بانتحار المبدع؟ كما هو الشأن مع الروائية الإنكليزية فيرجينيا وولف (1882 ــ1941) التي وضعت حدا لحياتها بعد عمر قارب الستين، غرقا بعد أن ملأت جيوب معطفها بالحجارة، كما هو شائع عن طريقة موتها، ولو أنه حسب بعض الدارسين والمهتمين بحياة وأدب وولف، يربطون أولى رغباتها في الانتحار، بسن الثانية والعشرين من عمرها، وقد قفزت من نافذة بعلو غير كاف، نجت منه لتؤجل رغبتها المجنونة تلك في الانتحار داخل سياقاته الإبداعية، وما تنطوي عليه فلسفة ورؤى، تلح هي الأخرى باستدعاءات جدلية الإبداع وجنون النبوغ والعظمة.
ثمة سؤال الغائية الإبداعية إجمالا، وما يحاول ــ عبثا ــ ترعه، من فراغات في الشخصية الساقطة في فخ العلة النفسية، وما ينجم عنها من اختلالات، نتيجة تمكن الاكتئاب من الإنسان مبدعا بامتياز، من بعدا ما يكون استنفد جهده وأنفق وقته في تحسس ملامح تلكم الجدوى، من الممارسة الإبداعية في كليتها المركبة والمعقدة حد اللعنة. وتجدر الإشارة إلى أن معادل الأنثوي، يستقوي بحضوره، أقله من منظور إبداعي صرف، تزكيه النظريات النفسية المفتية، بثقافة الهشاشة والقابلية للانكسارات النرجسية، لدى الأنثى بمعدل أعلى وصبيب أقوى، يُستشهد عليه بارتفاع حالات الانتحار في صفوف الجنس اللطيف، على وجه التحديد.
في كل فؤادٍ غليَان، في الكوخِ الساكِن أحزان، في كل مكان روح تصرخُ في الظلماتِ، في كل مكان يبكي صوت.
الانتحار رمزياً
هذا ونجد الشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923 ــ 2007)، وإن تقاطعت مع فيرجينيا وولف في خلل نفسي يدعى الاكتئاب، هذا الذي يبتدئ بتقمص أدوار القرين ــ إبداعيا ــ كي ينقلب إذا لم يحسُن استثماره لصالح الذات المبدعة، وهي تنشد نقاط توازناتها الوجودية، بشكل مكرور ودائم، ينقلب إلى فعل انتحار. مع نازك، يتحقق هذا الاستثمار لعناصر المعاناة ليتحول إلى قطوف وثمار وإيجابية مراوغة لمحطات الانتحار، كحــــل لا ردة فيه تمليه لحظة انهيار نفسي تام، وكأن رمزية هذا المثلب، في ضمنية الممارسة الإبداعية، تبطل تجليات تبعاته وأثره في النضال الحياتي بشكل أحوى وأعمق.
وهكذا تستساغ مرارة المعاناة مع حالات الاكتئاب، حتى في درجاته القصوى، كونها تصرف إبداعيا ــ إذا شئنا ــ مسوفة الانتحار الفعلي ومماطلة إياه ببديله الرمزي، لحين انفراج الحال وتخطيها، أو الدخول في نوبات أخرى، كأنما تُقنع الذات بخيارات تجريبية مجُابِهة لراهن الحالة المرضية الحادة والمتفاقـــمة، على نحـــو منوم بشكل أو بآخر، لهذا الفيروس السيكولوجي الفتاك، ومُدخل في البرزخية الإبداعية المموهة، مثلما أسلفنا.
نقتبس لنازك الملائكة في عمق تجربتها مع الاكتئاب، وصدق مواجهتها له شعريا، وبإخلاص شديد للكتابة التفعيلية، من أشهر أقوالها هذه الومضة «في كل فؤادٍ غليَان، في الكوخِ الساكِن أحزان، في كل مكان روح تصرخُ في الظلماتِ، في كل مكان يبكي صوت».
من هنا نستشف خطورة أن يجتمع على الكائن، قدران: الحالة المرضية على اختلاف عناوينها ومضامينها، والميزة الإبداعية، خاصة إزاء ورطة عدم استغلال المعاناة بالشكل الإيجابي الجيد، الذي يمنح المبدع عمرا موازيا رمزيا، مخولا لاستساغة ذهنية ملطفة للاصطدام النرجسي بصروف الدهر وأهواله المميتة.
٭ شاعر وكاتب مغربي