تجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا الثلاثاء، ويوجد إجماع استثنائي على أنها تشكل منعطفا حقيقيا يتجاوز الانتخابات، التي حملت دونالد ترامب إلى رئاسة البلاد سنة 2016. وتتنوع الجوانب لتناول هذا الحدث السياسي الهائل، ولكن بالنسبة لنا فإن هذه الاستحقاقات هي مواجهة بين الدولة العميقة الكلاسيكية التي ما زالت قوية، ودول عميقة جديدة لم تتبلور بعد يمثلها المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
وبالفعل، عديدة هي الجوانب التي يمكن رؤية الانتخابات الأمريكية بها، داخليا إلى أي مستوى ستفاقم من الاستقطاب، الذي يهدد بمواجهات قد تقود إلى تقويض نسبي لأسس الدولة كما وقع يوم 6 يناير 2021، بالهجوم على مقر الكونغرس رفضا لنتائج الانتخابات؟ وعلى المستوى الخارجي لأن الولايات المتحدة دولة كبرى لها بصمتها في مختلف الملفات الدولية، دون استثناء في الحروب والاقتصاد والثقافة والصراع على زعامة العالم.
موسكو تترقب الفائز لانعكاس نوعية الرئيس على الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو الاهتمام نفسه من طرف الصين، ويتكرر مع فلسطين والسعودية والمغرب وفرنسا وإيران وكوريا الشمالية، وهكذا جميع الدول دون استثناء، لأن لديها ملفات خارجية ترتبط بصورة أو بأخرى برؤية العم سام لها. ويمكن اختزال كل هذه الانتظارات والتطورات والترقب في عنوان عريض وهو، أن هذه الانتخابات تجري بين تصورين وهما: المواجهة بين الدولة العميقة الكلاسيكية، والدولة العميقة البديلة في الولايات المتحدة، لأن انتصار مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس يعني الاستمرارية، وانتصار المرشح الجمهوري دونالد ترامب يعني القطيعة وبداية مسار جديد نسبيا. كامالا هاريس تمثل استمرارية الدولة العميقة الكلاسيكية، التي تحكم الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الدولة التي تؤمن بتصور أن عظمة الولايات المتحدة تتجلى في ريادتها للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، وضرورة الحفاظ على الهياكل الداخلية، التي يقوم عليها الوطن الأمريكي، ومنها وجود موظفين يسهرون على هذا التصور، ومنع أي تغيير سياسي ولو جاء من البيت الأبيض. تؤمن الدولة العميقة الكلاسيكية بضرورة استمرار البلاد في استقبال المهاجرين من شتى الإثنيات والثقافات والديانات، والاستمرار في التنسيق مع باقي الغرب، خاصة عبر منظمة شمال الحلف الأطلسي، وتصر على هذا التصور أكثر من أي وقت مضى، في ظل تهديد الصين لريادة واشنطن للعالم. وأهم شيء تؤمن به الدولة العميقة هو استمرار موظفين كبار في مختلف القطاعات يطبقون سياسة لا تخضع دائما لقرارات الرئيس، بل قد تتعارض معه أحيانا تحت مبرر خدمة الوطن والحفاظ عليه من انحراف سلطة الرئيس نفسه.
الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة هي مواجهة بين الدولة العميقة الكلاسيكية التي ما زالت قوية، ودول عميقة جديدة لم تتبلور بعد يمثلها ترامب
في المقابل، يؤمن دونالد ترامب ومن يرافقه بضرورة مواجهة الدولة العميقة الكلاسيكية، من أجل دولة جديدة تقوم أساسا على تقليل دور الولايات المتحدة في العالم والاعتماد على تعزيز الجبهة الداخلية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ويعتقد ترامب أن الدولة العميقة الكلاسيكية حاربته في ولايته الأولى لأنها مكونة من موظفين متآمرين على البلاد، ولهذا فهو يعتزم محاربتها في ولايته الرئاسية الثانية إذا فاز. وعليه، تتمحور تصريحاته ووعوده في ما يعتقد بضرورة تدمير الدولة العميقة قبل أن تدمر البلاد. ومنذ سنوات، ولاسيما بعدما خسر الانتخابات، يتعهد ترامب في حالة فوزه الانتقام بتدمير الدولة العميقة، تحت مبرر لا يمكن لأي موظف غير منتخب التدخل في قرارات الدولة والتأثير على الرئيس. ووصف أعضاء الدولة العميقة في تجمع انتخابي في ويسكنسن، وفي تصريحات لاحقة في «فوكس نيوز» بأعداء البلاد، وأنهم أخطر من روسيا والصين. ويسود الاعتقاد أن ترامب سيتبنى سرا ما يسمى «مشروع 2025» وهو برنامج أعدته عشرات الجمعيات المحافظة، وموظفون سابقون كانوا مستشارين لترامب في البيت الأبيض، يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة الأمريكية. وقالت كامالا هاريس في مناظرتها التلفزيونية مع ترامب «ما ستسمعونه الليلة هو خطة مفصلة وخطيرة تسمى مشروع 2025، التي ينوي الرئيس السابق تنفيذها إذا ما تم انتخابه مرة أخرى». وكتب توماس زيمر الأستاذ الزائر في جامعة جورج تاون، في مدونته «مشروع 2025 هو خطة لتنفيذ ما يرقى إلى استيلاء استبدادي شامل على الحكومة الأمريكية». ويؤكد ترامب أن برنامجه هو «ملف أف» الذي سيقوم بموجبه بالتحكم في آلاف المناصب الحكومية الفيدرالية التي تعرقل عمل البيت الأبيض.
وبلورت مؤسسة «هيريتاج» «مشروع 2025» وهي مؤسسة محافظة جدا وكان من أبرز السياسيين الذين ألقوا عروضا في مقرها الرئيس الأسبق رونالد ريغان، ورئيسة الحكومة البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر، من رموز العمل السياسي المحافظ في الغرب. وتعتقد المؤسسة أن الدولة العميقة حاليا انحرفت عن مسارها مع الرئيس بيل كلينتون، خاصة مع قدوم الرئيس باراك أوباما، وتريد تغييرا جذريا في فكر وتصور الدولة العميقة. وارتفع الحديث مؤخرا عن دور الدولة العميقة في الولايات المتحدة وفي العالم، بعدما كان الحديث عنها وكأنه حديث عن شبح لا يوجد في مخيلة البعض، رغم أن أول كتاب عنها كان سنة 1964 وهو كتاب «الحكومة غير المرئية» لديفيد وايز وتوماس ب. روس، الصادر عن دار راندوم هاوس سنة 1964. وجاء في الكتاب وقتها «توجد حالياً حكومتان في الولايات المتحدة. إحداهما مرئية والأخرى غير مرئية. الأولى هي الحكومة التي تخبر الصحف المواطنين عنها وتخبر كتب التربية الوطنية تلاميذ المدارس عنها. والثانية هي الآلية الخفية المتشابكة، وهي عبارة عن مجرة لا شكل لها من الأفراد والوكالات». وتطورت الدولة العميقة لتصبح متعددة تضم سياسيين وعسكريين وموظفي الاستخبارات ودبلوماسيين وإعلاميين وطبقة الأعمال. وصدرت مئات الكتب والدراسات حول الدولة العميقة، وأهمها دراسة «المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية» NBER وهو مكتب أمريكي اعترف صيف 2021 في دراسة شملت أطر الدولة ما بين 1997-2021 بوجود دولة عميقة في البلاد مكونة من موظفين وأغلبهم من التوجه الديمقراطي. وهناك يجب فهم تهجم ترامب على الدولة العميقة. ويوجد من يعتبرها ضرورة للولايات المتحدة وآخرين يعتقدون أنها أصبحت خطرا على مستقبل البلاد.
ولاستيعاب حجم الدور الذي تقوم به، تنقل جريدة «لوموند» يوم 19 ديسمبر 2019 عن هوبير فيدرين الذي كان ناطقا باسم رئاسة ميتران ووزير خارجية في التسعينيات، واصطدمت باريس مع واشنطن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حول روسيا، يقول في وصفه لإحدى القرارات الكبرى للدولة العميقة الأمريكية التي مست حتى مسار أوروبا «لقد وقع نوع من التوافق بين البنتاغون ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي حول بعض النقاط، مثل الرغبة في إبقاء روسيا كعدو بعد الحرب الباردة». عمليا، هذا التصريح يجعلنا نفهم بشكل أعمق الحرب الأوكرانية – الروسية.
الانتخابات الرئاسية هذا الثلاثاء في الولايات المتحدة هي مواجهة بين الدولة العميقة الكلاسيكية التي ما زالت قوية، ودول عميقة جديدة لم تتبلور بعد يمثلها ترامب. وفوز الأول يعني الاستمرارية وفوز الثاني يعني تغيير في رؤية واشنطن للداخل والخارج، وتوجه المسؤولين الآن ومنهم المؤسسة العسكرية هو الاستمرارية، ولهذا من الصعب فوز ترامب في هذه الانتخابات.
كاتب مغربي