ها هي نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي تثبت مجددا أن صعود اليمين المتطرف في القارة العجوز صار حقيقة سياسية لا يمكن تجاهلها. أصبح اليمين المتطرف القوة الانتخابية والسياسية الثانية في عديد البلدان الأوروبية، يسبقه فقط يمين الوسط ويليه اليسار بكل أطيافه الاشتراكية والخضراء.
ومن موقعه الراهن، وليست انتخابات البرلمان الأوروبي سوى علامة إضافية على صعوده بعد أن دخل إلى الائتلافات الحاكمة مشاركا أو ضامنا وبعد أن حقق سياسيوه انتصارات غير متوقعة في انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية كثيرة، يستطيع اليمين المتطرف أن يفرض على جدول أعمال القارة العجوز أولوياته المتمثلة في إغلاق أبواب أوروبا في وجه المهاجرين واللاجئين والتضييق على من وصل منهم بالفعل ودفع سياسات الهوية في اتجاه وطنيات شوفينية قد تسعى إلى تفتيت الاتحاد الأوروبي ذاته.
يحدث ذلك بينما أوروبا تعاني من استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية ومن كلفتها الباهظة إنسانيا واقتصاديا وماليا وعسكريا حيث يشتعل سباق تسلح أوروبي يتشابه مع عسكرة القارة خلال الحرب الباردة بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين وبعد أن ظنت الشعوب الأوروبية أن نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق يضمنان عدم تفجر الحروب على أراضيهم وعدم العودة إلى سباقات تسلح مكلفة وغير مجدية (كسباق الصواريخ النووية متوسطة المدى في ثمانينيات القرن العشرين). وقد ثبت خطأ ظن الأوروبيين.
يحدث ذلك بينما أوروبا بصعود اليمين المتطرف في بلدانها تتماثل أحوالها السياسية والمجتمعية مع غلبة الخطاب السياسي الشعبوي والمتطرف على اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتحول الحزب الجمهوري إلى حزب يسيطر عليه دونالد ترامب، الرئيس السابق والمرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة في خريف 2024 والرجل المهووس بترحيل المهاجرين ومنع قدوم مهاجرين جدد إلى الولايات المتحدة والمقتنع بأولوية تفتيت مؤسسات الديمقراطية الأمريكية. ولا تختلف حالة أوروبا أو حالة الولايات المتحدة عما أفرزته وتفرزه صناديق الانتخابات في بعض بلدان أمريكا اللاتينية (البرازيل في بداية العقد الراهن والأرجنتين قبل أشهر معدودة) وبعض البلدان الآسيوية التي تعقد بها انتخابات تعددية (الفليبين مثالا).
يستطيع اليمين المتطرف أن يفرض على جدول أعمال القارة العجوز أولوياته المتمثلة في إغلاق أبواب أوروبا في وجه المهاجرين واللاجئين ودفع سياسات الهوية في اتجاه وطنيات شوفينية قد تسعى إلى تفتيت الاتحاد الأوروبي ذاته
وفي عمومية صعود اليمين المتطرف في البلدان الغربية وفي عديد البلدان التي سارت على درب التحول الديمقراطي في الجنوب العالمي ما هو أزمة وجودية كبرى لنموذج الحكم الديمقراطي بمكوناته المرتبطة بتداول السلطة سلميا وسيادة القانون وحماية الأقليات وضمان حقوق وحريات كافة المواطنات والمواطنين دون تمييز.
فاليمين المتطرف يهدد بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إن لم يفز بها. وفي الموقف العنيف لدونالد ترامب وجموع مؤيديه المتطرفين في أعقاب فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 ونزوعهم نحو عدم الاعتراف بالنتائج وتشكيكهم (إلى اليوم) في شرعية الانتخابات ما يدلل بوضوح على الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف في هذا الصدد. وكان الرئيس البرازيلي السابق بولسنارو قد هدد بما يشبه فعلة ترامب ومؤيديه في 6 يناير / كانون الأول 2020 حين حاصروا ثم اقتحموا مبنى الكونغرس الأمريكي وذلك عندما أعلنت خسارته للانتخابات الرئاسية في البرازيل أمام المنافس لولا دا سيلفا، غير أن بولسنارو تراجع في اللحظات الأخيرة.
أما فيما خص سيادة القانون، فاليمين المتطرف لا هم له سوى تفريغها من المضمون والفاعلية. فحزب البديل لألمانيا، والذي حصل على المركز الثاني في انتخابات البرلمان الأوروبي متخلفا فقط عن الحزب المسيحي الديمقراطي، تورط بعض قياداته في تجمعات سرية تستهدف الانقلاب على النظام الديمقراطي في ألمانيا وتعطيل العمل بالدستور والقوانين.
ويتشابه البديل لألمانيا مع أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة وبلدان الجنوب العالمي في نزوعهم الجماعي نحو تعطيل الضمانات الدستورية والقانونية التي تحمي وجود المهاجرين واللاجئين لكي يتمكنوا من طردهم أو ترحيلهم أو معاقبتهم جماعيا. ولا تسجل أحزاب وحركات اليمين المتطرف احتراما يذكر لمبدأ استقلال القضاء ونزاهة المحاكم، بل يحملون عليه وعليها ويكيلون الاتهامات بحثا عن مكاسب سياسية.
وفيما خص مسألة حماية الأقليات، فاليمين المتطرف ينطلق من خطابات سياسية ومقاربات انتخابية تضطهد الأقليات العرقية والدينية واللغوية وتستدعي نظرة شوفينية للوطنيات في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وفي بلدان الجنوب العالمي هدفها إلغاء وجود الأقليات. ولليمين المتطرف مقاربة بالغة الرجعية والتمييز ضد السود والعرب والمسلمين والنساء من المهاجرات واللاجئات وضد مجموعات قوس قزح.
والشاهد أن أحزاب وحركات اليمين المتطرف وهي تزج بالديمقراطية إلى أتون أزمة وجودية كبرى وتشكك في كافة مكوناتها، إنما تفعل ذلك وهي تنشر الإعجاب بنماذج الحكم الأخرى التي تراها أكثر فاعلية. والإشارة هنا تحديدا إلى النموذجين الصيني والروسي اللذين يروج لهما اليمين المتطرف ويتبنى مواقفهما في السياسة الداخلية والخارجية. وليس بغريب أن يكون بعض سياسيي اليمين المتطرف من الأصدقاء الشخصيين للقيادات الصينية والروسية وأن تتداول بعض التحقيقات القضائية بشأن تجسس برلمانيي أحزاب كالبديل لألمانيا لحساب بكين وموسكو.
كاتب من مصر