تجري الانتخابات في إسرائيل ويجري تقديم موعدها ومنذ وقت طويل على قاعدةٍ متصلة بالأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصادية وبملفات الفساد الرَّسميَّة أكثر من اتصالها بالتطورات السياسيَّة أو بمستقبل عمليَّة التسوية المُزمنة بلا نتائج ومنذ أكثر من رُبْعِ قرن من الزَّمن.
تَجْدُرُ الإشارة هنا إلى أنَّ الصِّياغات القانونيَّة وتعديلات القوانين المختصَّة بتنظيم وتوجيه الحياة العامَّة في إسرائيل إنَّما تأتي في الأساس في سياق تبرير الآيديولوجيا التي قامت واستمرَّت دولة إسرائيل على أساسِها ويأتي في سياق ذلك أيضاً مسألة إتاحة الفرصة أمام المواطنين العرب للمشاركة في الانتخابات العامَّة.
منذ الانقلاب السياسي عقب انتخابات عام 77؛ حيث تمت إزاحة الحركة العماليَّة المُؤْتَلِفة من مجموعة من الأحزاب اليساريَّة والاشتراكيَّة وعلى رأسِها حزب العمل عن الصدارة لصالح قوى اليمين – وحيث تبقى تلك المحطَّة وإلى جانبِها محطَّة حرب عام 67 تحتفظان بأهمِّيَّتِهما لجهة فهم عوامل سياقات تظهيرقوى اليمين الإسرائيلي على حساب قوى اليسار التَّقليدي البائد، وأيضاً لجهة امتلاك أداة تحليل ملائمة لفهم ذلك السِّياق المستمر من حيث التأثير في رسم ملامح المستقبل أيضاً – ففي تلك المحطَّة تمَّ استبدال قيادة حركة العمل ذي الأفكار الاشتراكية في مضمار الاقتصاد بحزب الليكود ذي الأفكار الليبراليَّة وإلى جانبه أحزاب تكتُّل اليمين وبالتَّحالف مع التيَّار القومي الدِّيني ومنذ ذلك الحين يُحافظ الليكود على تماسك وصلابة خزَّانِه الدِّيمغرافي التقليدي الذي يُشكِّل مَعينَهُ الانتخابي في المنافسة مع غيره من الأحزاب والتَّوليفات الحزبيَّة الموسميَّة الطَّارئة على الساحة السياسيَّة الإسرائيليَّة حيث تنامت ظاهرة الطَّارئيَّة والموسميَّة في استيلاد الأحزاب السِّياسيَّة العلمانيَّة بشكلٍ خاص منذ اغتيال إسحق رابين عام 1995 كآخر زعيم كارزمي لحزب العمل ولقوى اليسار التَّقليدي.
وهذا الخزَّان الجماهيري التقليدي للِّيكود يتشكَّل في جزءٍ مهم منه من اليهود الشَّرقيين ومن الطَّبقات الأكثر تهميشاً في المجتمع – الذين جرى تهميشهم طيلة فترة قيادة حركة العمل وسيطرتها على مقاليد وأنشطة الهستدروت ومؤسساته المختلفة وكذلك على حركة الكيبوتس منذ قيام الدولة – وقد جرى اجتذاب ذلك الجمهور لصالح الليكود على قاعدة الترويج لبرامجه الاقتصاديَّة الليبراليَّة التي آمنت بخصخصة الاقتصاد على خلاف برامج حركة العمل الاقتصاديَّة التي كانت تؤمن بنمط خاص من الاقتصاد الاشتراكي بما اعتقدت أنَّه ملائم لمجتمع المهاجرين والمستوطنين الذين تدفقوا إلى البلاد ضمن الهجرات المتتاليَّة؛ وقد كان ذلك النَّمط الاقتصادي المصبوغ باشتراكيَّة اجتماعيَّة تعاونيَّة خاصَّة بطلائع الحركة الصهيونيَّة القادمة من أوروبا الشرقية وروسيا وبولونيا وبالنُّخب الأشكنازيَّة والجمهور المرتبط بها وبالأنشطة التعاونيَّة في الييشوف الزِّراعي والكيوبوتس والمؤسسات التَّعاونيَّة والأنشطة النقابية التي احتواها الهستدروت.
نظرية السِّتار الحديدي
وقد امتدَّت هيمنة قيادة الحركة العمَّاليَّة بأدوات الاقتصاد الاشتراكي الخاص عقوداً من الزَّمن إلى أنْ جاءَتْ مرحلة نهاية السَّبعينيَّات لتجد أفكار جابوتنسكي الأب الرُّوحي لحركة حيروت التي انبثق عنها تكتُّل الليكود فرصتها لقيادة الدولة والمجتمع في إسرائيل بعد عقود من هيمنة حركة العمل. وجابوتنسكي – كما هو معروف – هو صاحب نظرية السِّتار الحديدي وأحد أهم روَّاد تيَّار الحركة الإصلاحيَّة الليبراليَّة في الصُّهيونيَّة حيث طرح ذلك التَّيار ومنذ مطلع ثلاثينيَّات القرن الماضي وفي مرحلة ما سُمِّيَ بحرب الاستقلال نفسه كبديل عن الحركة العماليَّة وأفكارِها الاشتراكيَّة.
وعلى قاعدة الاحتجاج على هيمنة حركة العمل وتهميشها لقطاعات طائفية من المجتمع الإسرائيلي جرى اجتذاب طوائف اليهود الشرقيين على سبيل المثال لصالح الليكود وبرامجه الاجتماعيَّة والاقتصادية والسياسية برغم أنَّ القيادة النخبويَّة التقليديَّة للِّيكود أشكنازيَّة في الأساس؛ إلَّا أنَّ تلك البرامج كانت أكثر فاعليَّة ومسواة أو عدالة في نظر تلك الطوائف المهمَّشة من نظيرتها العمَّاليَّة.
موضوع النَّزاع مع الفلسطينيين
هذه المرَّة وفي نهاية الحملة الانتخابيَّة يُحاول نتنياهو استدعاء موضوع النَّزاع مع الفلسطينيين على الأرض وذلك عبر دعوته قبل أيام خلالِ إعلاناتٍ وُصِفَتْ بالدَّراماتيكيَّة دعا فيها النَّاخبين للتصويت لصالح حزبه لدعم خطَّة ضم الأغوار وشمال البحر الميت وإعلان السِّيادة على أجزاءٍ من الضِّفة الغربيَّة حيث الكتل الاستيطانيَّة.
جاءَت ردود الفعل – السَّاخرة والمُزايدة على ذلك من قبل الجنرالات في زعامة حزب أزرق أبيض المنافس؛ حيث وصفوا إعلاناته بالكاذبة؛ وقد ردَّ عليه كلٌّ من وزير الدِّفاع السَّابق موشيه بوغي يعلون وكذلك بني غانتس وانضم إليهم رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك من حزب جيشر/العمل؛ فقد ذكَّرَهُ – وعَيَّرهُ – موشيه يعلون بتفاهماتِه المبدئيَّة مع جون كيري حول ترتيبات تقليص السيطرة والسيادة الإسرائيليَّة على الأغوار، وعبر تغريدَةٍ على تويتر قام يعلون بالتَّذكير أنَّه وبكوْنِه وزيراً للدفاع في حينه هو من حال دون المضي في المباحثات مع الأمريكيين حول تلك الترتيبات.
وقام إيهود باراك بالمزايدة على نتنياهو عندما ذكَّره بمسؤوليَّته عن إبرام اتفاق الخليل مع الفلسطينيين في ولايته الأولى كرئيس وزراء عام 96. في الوقت الَّذي اعتبرَ فيه بني غانتس أنَّ ذلك يجب أنْ يُعدَّ ويؤخَذَ كوعْدٍ انتخابيٍّ ينبغي محاسبة نتنياهو وحزبه على عدم تنفيذه في حال تمكَّنوا من تشكيل الحكومة القادمة؛ وأنَّ حزبه هو الأقدر على تنفيذ مثل هذه الخطوة في المستقبل.
فضلاً عمَّا قام به نتنياهو من نشاطات عسكرية في كل من العراق وسوريا ولبنان وغزَّة في الأسابيع الأخيرة في محالة لرفع أسهمه الانتخابيَّة فقد قام خلال الأيام الماضية أيضاً بمحاولة توظيف منظومة علاقاته العامَّة؛ فطار إلى موسكو على رأسِ مجموعة من الجنرالات للاجتماع بالقيادة الروسيَة تحت العنوان التقليدي المكرور القاضي بمواجهة النشاط الإيراني في سوريا والمنطقة؛ لكن وحسب الصحافة الإسرائيليَّة فقد وجد نتنياهو هذه المرَّة فتوراً روسيَّاً تجاه التَّعاطي مع مثل هذا الكلام الذي سَئِمَهُ الرُّوس.
في موازاة ذلك تلقَّى نتنياهو من خلال تغريدَةٍ لدونالد ترامب عبر تويتر هديَّةً انتخابيَّة وعرضاً سخيِّاً لتوقيع اتفاقيَّة دفاع مشترك بين الولايات المتَّحدة وإسرائيل بعد الانتخابات على أنْ يجري الحوار المعمَّق حول ذلك على هامش لقاءَات الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع المقبل؛ وقد ردَّ نتنياهو على دعوة ترامب ومن خلال تغريدة على حسابه الشَّخصي على تويتر أيضاً شاكراً ومُثنياً على دونالد ترامب بالقول: إنَّه لم يمر في تاريخ العلاقات الأمريكيَّة الإسرائيليَّة أنْ كان في البيت الأبيض رئيساً صديقاً لإسرائيل مثل الرَّئيس الحالي.
وفي يوم الانتخابات أمس تقلَّص الفارق سياسيَّاً وآيديولوجيَّاً تماماً كما تقلَّص الفارق في عدد الأصوات بين حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو وبين حزب أزرق أبيض بزعامة بني غانتس؛ حيث من الأرجح أن تكون النتائج متقاربة جدَّاً؛ فقد أشار آخر استطلاعٍ للرأي نشرته صحيفة معاريف صباح الجمعة الثالث عشر من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري وقبل ستٍّ وتسعين ساعة من الانتخابات – حيث يُحظر إجراء استطلاعات للرأي بعد ذلك في انتظار بدء الاقتراع – وحسب النتائج الإجماليَّة لذلك الاستطلاع سيحصل معسكر اليمين على 57 مقعدا ومعسكر يسار وسط على 53 مقعدا وحزب إسرائيل بيتينو بزعامة ليبرمان على 9 مقاعد؛ مِمَّا يُبقيه بيضة القبَّان لدى الشُّروع في المشاورات لتشكيل الحكومة المقبلة. يُشار هنا إلى أنَّ تعثُّر الاتفاق بين نتنياهو وليبرمان هو من حال دون تشكيل الحكومة في أعقاب الانتخابات الماضية مما استلزم إعادتها.
وفيما ذهب استطلاع معاريف إلى أنَّ حزب المنعة لإسرائيل بزعامة إتيمار بن غفيش لن يجتاز نسبة الحسم ذهب استطلاع صحيفة يسرائيل هيوم القريبة من نتنياهو إلى أنَّ عُوتصما ليسرائيل – المنعة لإسرائيل – سيجتاز نسبة الحسم وذلك بحصوله على أربعة مقاعد. ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّ نسبة الخطأ في هذه الاستطلاعات تبلغ حدود 4%. وقد أعربَ 53% من المستطلعة آراؤُهم عن اعتقادهم بأنَّ الحملات الإعلامية والدِّعاية الانتخابيَّة كانت ملوَّثة.
بالإجمال وأيَّاً تكن الانتخابات المقبلة: ربَّما الأرجح أنْ يبقى الليكود وتكتل أحزاب اليمين من ورائه الأكثر قدرةً على الاستثمار في سياق البرامج الانتخابيَّة والسياسيَّة والأكثر قدرةً على توظيف الآيديولوجيا، كما تبقى شخصية بن يامين نتنياهو الإشكاليَّة – وبرغم ما يواجهه من معضلات قانونيَّة وقضائية – الأكثر قدرةً على الاستثمار في مجال العلاقات العامَّة دوليَّاً وإقليميَّاً والأكثر قدرةً ربَّما وفي المدى المنظور على الأقل على توظيف وتفعيل قوَّة المعادلة المُركَّبة من الدِّين والجيش والمجتمع التي تتشكّل منها إسرائيل على نحوٍ خاص؛ وهذا بالأساس ما يُقلِق خصومه السِّياسيين أكثر مِمَا تقلقهم ملفَّات الفساد المقدَّمة ضده. وإزاء ذلك كلِّه سيبقى مستقبل الحياة العامَّة في إسرائيل رماديَّاً كما لم يكن في أيِّ يومٍ من الأيَّام.
كاتب فلسطيني