تتواجه في الانتخابات التونسية المقررة ليوم 15 من الشهر المقبل مدرستان سياسيتان وفكريتان الأولى دينُها عولمة السوق وحرية التجارة، وتمثلها أحزاب اليمين، والثانية تتخذ من النزعة الاسلامية العابرة للأقطار منهجا، وتمثلها أساسا “حركة النهضة”. بهذا المعنى تتشابك غالبية الأحزاب المنشقة عن حزب “نداء تونس”، مع الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للبلد، وتضع في المرتبة الأولى قيم الحداثة، ومن ضمنها المساواة بين الجنسين في تقاسم الإرث. كما تسعى تلك الأحزاب للتماهي مع وصفات “الاصلاح” الاقتصادي، التي تقترحها مؤسسات النقد الدولية للخروج من الضائقة المالية الراهنة.
وفرضت وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في 25 الشهر الماضي، التعجيل بإجراء انتخابات سابقة لأوانها، فيما تولى رئيس مجلس النواب محمد الناصر رئاسة الجمهورية بالوكالة لمدة لا تزيد عن تسعين يوما.
ويتشابك المسار الرئاسي مع المسار البرلماني، إذ ستُجرى انتخابات لتجديد أعضاء البرلمان في السادس من أكتوبر المقبل. ومن المتوقع أن تؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية، في خيارات الناخبين يوم الاقتراع لتجديد البرلمان. وكانت حركة “نداء تونس” واجهت حركة “النهضة” في انتخابات 2014 وفاز مرشح الأولى قائد السبسي على منصف المرزوقي، المرشح الذي دعمته “النهضة”، فيما أتى “النداء” أولا في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يتفكك في السنوات الأخيرة.
خريطة جديدة
وسيجد التونسيون أنفسهم أمام خريطة جديدة هذه السنة، بعدما تشكلت خمسة أحزاب منبثقة من “النداء”، أبرزها حزب “تحيا تونس” الذي يقوده رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد. ولم تستطع الأحزاب “الندائية” الاتفاق على مرشح موحد للرئاسيات، إذ أن المرشحين المنحدرين من “النداء” الأصلي، هم بالإضافة ليوسف الشاهد، سعيد العائدي (مرشحا من حزب جديد “بني وطني”) وسلمى اللومي (حزب “أمل” حاليا) ومحسن مرزوق (مرشحا عن حزب “مشروع تونس”) وناجي جلول (مستقل).
وبعد إقفال باب الترشيحات للرئاسة مساء أمس الأول الجمعة أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنها تلقت 98 ترشيحا، معظمهم لشخصيات مستقلة. لكن الكثير منهم لا يستجيب للشروط، وأولها ضرورة الحصول على 10000 ترشيح من ناخبين، في عشر محافظات مختلفة، أو ترشيحات كتابية من عشرة نواب في البرلمان أو أربعين رئيس بلدية. ولم تُشكل هذه الشروط حاجزا أمام المتطفلين والباحثين عن بروز إعلامي عابر، الذين اكتفوا بتقديم ملفات ترشيح خاوية. وعليه يُرجح أن ينخفض عدد الترشيحات المقبولة إلى أقل من الثلث. وتوقع نائب رئيس الهيأة العليا للانتخابات فاروق بوعسكر، ألا يتجاوز عدد الترشيحات الصحيحة رُبع المسجلين في لائحة الترشيح، أي بين 25 و27 مرشحا، وهو عدد غير بعيد عن عدد المرشحين للانتخابات الرئاسية السابقة.
ويمكن القول إن شبح العزوف عن المشاركة في الانتخابات، الذي كان خطرا ماثلا خلال الانتخابات البلدية العام الماضي، زال تماما مع تزايد الاهتمام لدى رجل الشارع والنخب السياسية على السواء بالانتخابات. ومن المتوقع أن يكون الإقبال كثيفا على مراكز الاقتراع وألا يقل عن نسبة الاقبال المسجلة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، خاصة أن عدد المسجلين الجدد تجاوز 1.3 مليون ناخب.
مؤسسة عسكرية محايدة
يتساءل مُتابعون كثرٌ عن موقف الجيش من التجربة الديمقراطية الغضة في تونس، وعادة ما يصف المنتمون للمؤسسة هذا الجيش بكونه “جمهوريا لا يتدخل في السياسة”. وما أتاح استمرار هذه العقيدة أن جميع الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الدفاع منذ الحكومة الأولى التي شكلها بورقيبة في خمسينات القرن الماضي إلى اليوم، هم من المدنيين. كما لم يُحشر الجيش في أعمال قمع خلال الانتفاضات المتكررة التي عرفها البلد، لا بل يُنقل عن رئيس أركان الجيوش إبان ثورة 2011، الفريق رشيد عمار أن الرئيس المخلوع بن علي طلب منه إنزال القوات المسلحة لقمع المظاهرات في العاصمة تونس والمدن الداخلية، إلا أنه رفض تنفيذ تلك التوجيهات، وفقا لروايته. ولعل الفروق في طبيعة الدور السياسي والوزن الاقتصادي والاجتماعي للمؤسسة العسكرية في مصر والجزائر من جهة وتونس من جهة أخرى، هو أحد العناصر المهمة التي جعلت المسار التونسي مختلفا عن جميع التجارب المماثلة في العالم العربي.
تعدُد الأقطاب
ومن المتغيرات البارزة في الانتخابات المقبلة ترشيح “النهضة” أحد قيادييها البارزين، وهو المحامي عبد الفتاح مورو، للرئاسية لأول مرة. وسبقت هذا الخيار نقاشات طويلة حسم الأمر في أعقابها لصالح مورو. ومن المتغيرات المهمة أيضا الانتقال من صراع القطبية الثنائية (النداء/ النهضة) إلى تعدد الأقطاب. ويتجسد هذا التعدد في كثرة المرشحين المستقلين، ومن بينهم وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، الذي استقال من منصبه حال تقديم ترشيحه إلى الهيأة المشرفة على الانتخابات، وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، والأمين العام الأسبق لحركة “النهضة” حمادي الجبالي (شغل رئاسة الحكومة بين 2011 و2013).
ومن المتغيرات أيضا تفكك “الجبهة الشعبية” (ائتلاف أحزاب يسارية وقومية) التي دخلت إلى انتخابات 2014 بصفوف موحدة، ومرشح واحد هو حمة الهمامي أمين عام “حزب العمال”، وقد انقسمت على نفسها بعد إقدام أحد فصائلها على ترشيح النائب منجي الرحوي إلى جانب الهمامي. ويعتقد مراقبون أن إخفاق أقصى اليسار في تحصيل كتلة مماثلة لكتلته في البرلمان الحالي (15 مقعدا)، سيضعه على طريق الاندثار. وكانت الكتلة تشظت أخيرا بسبب التنافس بين الهمامي والرحوي.
رموز النظام السابق
بعد الجدل الذي سبق انتخابات 2011 و2014 ورافقهما في شأن استبعاد أنصار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وهو الجدل الذي ظهر مثله أيضا في مصر وليبيا، بعد ثورتيهما، حسم التونسيون الأمر بإطلاق حرية العمل السياسي لرموز النظام السابق. واستطاعت إحدى قيادات الصف الثالث أيام بن علي، وهي المحامية عبير موسي، أن تؤسس “الحزب الدستوري الحر” تيمنا بحزب الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة (1957-1987)، وتطرح برنامجا شعبويا يمكن اختصاره في العودة إلى ما قبل ثورة 2011، ووضع عناصر “النهضة” وقياداتها في السجن. غير أن اللافت هو غياب القياديين السابقين من ذوي الأوزان الثقيلة عن الهيئات القيادية للحزب الجديد، وخاصة بعض الوزراء السابقين الذين خاضوا انتخابات 2014 الرئاسية بصفتهم مرشحين مستقلين. واللافت أيضا أن رئيس الحزب الوطني الحر سليم الرياحي، الذي سبق أن خاض الانتخابات الرئاسية في 2014، ثم غادر البلد بعد ملاحقته قضائيا بتهم فساد، أرسل ترشيحه للانتخابات المقبلة، من الخارج، خشية القبض عليه في حال العودة إلى تونس. وسيدخل الرياحي إلى غمار الانتخابات المقبلة، إذا ما ثبت أن ملفه استوفى شروط الترشيح، بصفته “مستقلا” هذه المرة، بعد اندثار حزبه وتوزُع أعضائه على الأحزاب الأخرى.
شعبوية ومال فاسد
من الظواهر البارزة في الانتخابات الرئاسية المقبلة الحجم المتزايد للتيارات الشعبوية، التي تحاول الظهور في مظهر النقيض للأحزاب التقليدية، فتمتنع من تقديم برامج سياسية واقتصادية واضحة، مُستثمرة خيبة الناس من ارتفاع كلفة المعيشة ومللهم من الصراعات الحزبية، التي تعتاش منها بعض القنوات التليفزيونية المحلية، لتمنحهم وعودا سرابية.
ويلعب المال المشكوك في مصادره أيضا دورا كبيرا في الانتخابات التونسية، إذ دأب رجل الأعمال نبيل القروي، أحد المرشحين للرئاسة، على زيارة الأحياء الفقيرة والقرى النائية لتوزيع مساعدات مختلفة، مقابل كسب دعم شعبي يوم الاقتراع. وتحدى القروي القضاء، الذي يلاحقه لشبهات فساد، وكذلك الهيأة المستقلة لتعديل الاعلام المسموع والمرئي، التي طلبت منه الامتثال للقانون والامتناع من استخدام قناته التلفزيونية، “نسمة”، في حملته الانتخابية، المستمرة منذ شهور، إلا أنه رفض الانصياع للقانون.
تحت قبة البرلمان
واستلطف بعض السياسيين العزف على أوتار الشعبوية، فاتخذوا بدورهم نهج الرفض المطلق، ومارسوه حتى تحت قبة البرلمان، أسوة بالنائبة سامية عبو، زوجة المرشح الرئاسي محمد عبو، التي استخدمت سلاطة اللسان وسيلة لكسب تعاطف الرأي العام. وستُنافس سامية عبو رئيس حركة “النهضة”، راشد الغنوشي، المرشح في دائرة تونس الثانية. وللمرة الأولى يخوض نائب رئيس الحركة مورو الانتخابات الرئاسية، فيما يُنافس الغنوشي على مقعد في البرلمان، قد يقوده إلى رئاسة المجلس التشريعي. وبينما يعتبر أعضاء “النهضة” أن وصول رئيسهم إلى سدة البرلمان تتويجا مستحقا لمسيرته السياسية، لا سيما أن دستور الحركة لا يسمح له بالتجديد في المؤتمر المقبل (2020)، يعتقد محللون آخرون أن هذا الهدف ليس سهلا ولا مضمونا، لكون “النهضة” لن تحصد الغالبية في البرلمان المقبل، في جميع الأحوال، إذ أن حجمها يراوح بين 25 و30 في المئة، ما يضعها تحت رحمة الكتل الحداثية، التي لن تتحالف معها إلا في مقابل ثمن سياسي، قد يكون باهظا. بهذا المعنى تخوض “النهضة” الانتخابات في وضع غير مريح، إذ سيتقاسم خزانها الانتخابي ثلاثة مرشحين للرئاسية هم مرشحها الرسمي مورو، وأمينها العام المنشق الجبالي وحليفها في الانتخابات السابقة المرزوقي. ويشكل هذا التشتت عائقا أمام وصول مورو إلى سدة الرئاسة، ما يستوجب عقد تحالف مع أحد المرشحين الباقيين للدور الثاني.
وستكون مهمة الرئيس المقبل شاقة ودقيقة، لأنه سيخلف زعيما محنكا هو الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والمؤكد أن الرأي العام سيستخدم المقارنات في حكمه على أداء الرئيس الجديد، وعليه سيكون للمناظرات التليفزيونية المزمع عقدها بين المرشحين للرئاسة، دور كبير في توجيه خيارات الناخبين.
أنموذج مجتمعي
على الرغم من التباينات الكبيرة بين مرجعيات الأحزاب، التي ستتنافس في انتخابات 15 أيلول/سبتمبر المقبل، يتجلى من خطابات المرشحين قاسم مشترك هو ما درجت أحزاب الوسط على تسميته بـ”الاعتدال والوسطية”. يشترك في ذلك حزب النهضة ذو المرجعية الاسلامية، وغالبية الكتل المنشقة من حزب “نداء تونس”، مع أن مرجعيته حداثية بورقيبية. والأرجح أن الناخبين سيميلون إلى دعم القوى الوسطية، واستبعاد رموز التشدد والغلو، يمينا ويسارا، أيا كانت عناوينهما، لأن البلد اكتوى بنار العمليات الارهابية، ولا يريد لشبح العنف أن يعود من النافذة، بعدما حققت المؤسستان العسكرية والأمنية انتصارات كبيرة على الجماعات المسلحة والخلايا النائمة. بهذا المعنى يعتبر نجاح الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين ضمانة لاستمرار تجربة الانتقال التونسي