الانقلاب يرد الاعتبار لـ “الإذاعة”: هل هناك من يستمعون لـ “الإذاعة” السودانية؟!

حجم الخط
6

رد الانقلاب العسكري في السودان الاعتبار لـ “الإذاعة”، فأول خطوة لحركة الضباط كانت بالسيطرة على عليها، وطلب الذين اقتحموا مقرها بمنع إذاعة نشرة الساعة الخامسة صباحاً، إلى حين إعلان البيان، والذي تأخر إلى حدود التسع ساعات، ولا نعرف سبباً لهذا، ولماذا أصلاً كان طلب وقف النشرة، إذا لم يكن البيان جاهزاً، أو لم يؤذن بعد بإذاعته؟ فهل كان منع “النشرة المسكينة” هو اختبار القدرة على المنع؟
ولماذا “الإذاعة”، وليس “التلفزيون”، وما قيل إنهما يقعان في مكان واحد، وأن هذا المكان خاضع لنفوذ قوات “الدفع السريع”، وليس للجيش، وهو ما جعلني أقول إنه ربما حصل للقوم مكروه، وقد انتشرت الشائعات طوال الساعات الفاصلة بين هذا الإعلان وإلقاء بيان الانقلاب فعلاً؟ وفي الحقيقة أن الشائعات لم تختص بها “السوشيال ميديا” هذه المرة، والتي غابت عن المشهد، فلا مكان للصحافي المواطن، أو المواطن الصحافي، فوكالات أنباء هي التي تولت هذا، وحولت التوقعات إلى أخبار قامت ببثها، مع وجود “الحبكة المهنية” اللازمة، مثل صرحت مصادر عليمة، أو مطلعة، فمع تخمة الأخبار المنشورة والمذاعة، في هذه اللحظات، لا أحد يتذكر كثيراً منها عندما تضع الحرب أوزارها، ويتبين الرشد من الغي، وهو في مثل هذه الحالة لا يتبين إلا بعد سنوات، وإلى الآن لا يزال كثير مما جرى في مصر في فترة الانقلاب العسكري، من الأسرار الحربية، وما ينشر في مجمله هو لاستغلال حالة الشغف بمعرفة ما حدث، فيكون المنشور هو لدغدغة المشاعر. وقد احتشدنا لمشاهدة وثائقي قناة “الجزيرة”: “الساعات الأخيرة”، فلم نجد على النار هدى!
ولا شك أننا صرنا بحاجة إلى إعادة تعريف “الفيلم الوثائقي”، أو وضع تصنيفات فرعية لهذا العنوان الضخم، وفي فترة الانفتاح الاقتصادي عرفت مصر ما سمي بـ “أفلام المقاولات”، وهي التي تقوم على مخاطبة الغرائز، وتهتم بـ “المناظر” على حساب “القصة”، ولا تستوجب “الحبكة الدرامية”، إنها أفلام الشاطئ أو الشقق، ولمخاطبة جمهور بعينه، ولست مع القائلين بأنها ظاهرة انتهت، فالصحيح أنها تطورات، مع وجود نوعية من المنتجين يفتقدون للثقافة “عائلة السبكي نموذجاً”. ومع هذا لا ينفي أحد عنها أنها أفلام.
وإلى أن يتم إعادة تعريف “الفيلم الوثائقي” أو وضع التصنيفات الفرعية بما يتماشى مع ظروف مرحلة “التعبيئة والتغليف”، يصبح لزاما علينا العودة إلى الأدوات الصحافية التقليدية للوصول للمعلومة، التي تظل في الحوادث الكبرى غائبة، بما يمكن وكالات للأنباء من تمرير أخبار غير حقيقية، وأحيانا تكون هذه الوكالات مثل الطبيب متواضع الكفاءة، حيث تقوم تذكرة الدواء التي يحررها على حصار المرض بمواجهة كل المسببات التي يمكن أن تنتج أعراضه، فتنشر الشيء وعكسه، فلا نعرف مع كل هذا السبب الحقيقي وراء تأخر العسكر في إذاعة بيانهم الانقلابي على الرئيس البشير، ولا نعرف إن كان هناك من حاول الاتصال بالموجودين بالإذاعة للتوصل لحقيقة ما يجري، وما إن كان السادة الضباط المقتحمين للمبنى، قد تناولوا إفطارهم، أم أنهم ظلوا كل هذا الوقت على لحم بطونهم؟!

عُنصر المفاجأة الغائب

هذا انقلاب مختلف ولا شك، فالانقلابات تقوم على فكرة المباغتة، ونجاحها يرجع إلى عنصر المفاجأة، بمعنى أن يقتحم الضباط أو مندوبون عنهم مبنى الإذاعة والتلفزيون، ويأمروا بإذاعة البيان، الذي يكون معداً سلفاً، فهل كان معداً في الحالة السودانية؟ أم كان المقرر أن يُتلى من هناك؟ ولماذا الإذاعة وقد تبين أنه صوت وصورة؟ ولم يحدث الاقتحام لمبنى التلفزيون، هل لا يزال أحد في السودان يستمع إلى الإذاعة أم أنها “عقدة العسكر”، وتطورهم البطيء؛ وأنهم لا يزالون عند مرحلة الإذاعة، ولم يصلوا بعد إلى مرحلة “التلفزيون الملون”، أم أنهم يرون لـ “عقيدتهم العسكرية”، أن الانقلاب العسكري لا يكتمل إلا بإذاعة بياناته في الإذاعة؟
وقد كان بيان حركة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952، عبر الإذاعة المصرية، التي تمثل رمز سيادة الحكم، لكن هذا كان قبل اطلاق مصر “التلفزيون العربي”، وقد ظلت الإذاعة في شارع الشريفين وسط البلد، حتى بعد اطلاقه، قبل أن يجمعهما مبنى واحد، هو مبنى الإذاعة والتلفزيون “ماسبيرو”!
وعندما فكرت الجماعة الإسلامية في قلب نظام الحكم، أعدت بياناً لبثه من هناك، لكنهم عندما وصلوا وجدوا قوات من الجيش تحيط بماسبيرو فتراجعوا، ولهذا أخذ المبنى أهمية كبرى، باعتبار أن أي انقلاب لن يتأسس نجاحه إلا إذا أذيع البيان رقم واحد من هناك، وتوحش قطاع الأمن به، حتى بدا كما لو كان المبنى جهاز أمني خرجت شاشة تلفزيونية من رحمه، وكان ما يُحزن رجال الأمن بالمبنى أن كاميراتهم لم تصل إلى دورات المياه، عندما كانوا يعثرون على بيانات تنديد بالفساد مكتوبة على جدرانها، وفي يوم جمعة الغضب، انطلقت كتيبة من الحرس الجمهوري إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وفي اليوم التالي نزل وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي، ليتفقد جنوده الذين يحيطون بميدان التحرير، وعندما ذهب لماسبيرو وكان نقل الزيارة يتم على الهواء مباشرة، ظل يسأل أحد الضباط عن اسم الكتيبة العسكرية التي يتبعها، وهو يذكرها له همساً، لكن المشير لم يسمعه فكان يطلب منه في كل مرة أن يرفع صوته، إلى أن سمع الجميع أنه في الحرس الجمهوري، عندئذ استشعر المشير الحرج، ليس لأن الحرس الجمهوري لا يخضع له، ولكن لم يكن مستساغاً أن يعرف الناس أنهم تابعون للحرس الذي يتلقى تعليماته من الرئيس، وكان يتردد ساعتها أن الجيش نزل للشوارع لحماية الثورة، ووجود الحرس الجمهوري ينسف هذه الدعاية!
خطة الجماعة الاسلامية كانت تقوم على “البث المشترك” لبيان الانقلاب، بين الإذاعة والتلفزيون، فهل هذا مرده إلى أنهم في النهاية مدنيون، وليسوا عسكريين يرون أن الأهمية للاذاعة وليست للتلفزيون؟!
لا أعرف إن كان بيان انقلاب عمر البشير قبل ثلاثين سنة كان عبر التلفزيون، أم اقتصر على الإذاعة ومن هناك جاءت أهمية اقتحام مبنى الإذاعة ووقف إذاعة نشرة أخبار الخامسة صباحاً، حتى يشعر الناس أن هناك أمراً جللاً قد وقع ليرهفوا السمع للتنويه عن بيان عسكري بعد لحظات، فإذا بها تمتد لساعات؟!

الإعلام الجديد والتقليدي

الأصل أن العسكر “دقة قديمة”، لهذا فإنهم لفتوا انتباهنا إلى أهمية الإذاعة (الراديو)، لأنه عندما بدأ الحديث عن السماح للأفراد بتملك القنوات التلفزيونية، كان الاقتراب من الإذاعة ممنوعا، بعد ذلك وقفنا على أن مستمعيها كثر، لا سيما في وسائل المواصلات “التاكسي” بالذات، وكنا مستسلمين تماماً لقواعد إعلامية خاطئة أسست لها دراسات أكاديمية، أن التلفزيون قضى على الراديو، تماما كما تقوم مئات الدراسات الآن على قاعدة أن الإعلام الجديد قضى بالضربة القاضية على الإعلام التقليدي، وهو كلام يفتقد للدقة، ويقوم على الحماس لتمرير أبحاث الماجستير والدكتوراه إلى لجان المناقشة، التي تحولت إلى ما يشبه الموضوعات الصحافية المرتبطة باللحظة الراهنة، لحظة الإعداد والمناقشة، ثم تصبح بلا قيمة في اليوم التالي!
لا توجد دراسة أكاديمية ناقشت أسباب انهيار الصحافة الورقية في مصر، إلى حد أنها جميعها لا يتجاوز توزيعها يوميا الربع مليون نسخة، في بلد كان عدد من الصحف فيه يصل توزيع الصحيفة الواحدة إلى مليون نسخة في اليوم، فالوجدان مستريح تماماً إلى أن هذا راجع إلى الإعلام الجديد، وهو ما يعطي المبرر لمزيد من الأبحاث عنه، فلأهميته والحال كذلك فإن كل جزئية تحتاج إلى بحث وباحث وأرواب ولجنة مناقشة، فهل يعود الفشل فعلاً لإعلام الجديد؟ حسنا، هل هرب القارئ إلى المواقع الالكترونية لهذه الصحف؟ الاجابة يقينا: لا.. إذن أين المشكلة؟!
ما علينا، فهل لا يزال هناك مستمع للاذاعة السودانية في زمن التلفزيون والسوشيال ميديا، إلى حد أن يقوم الضباط باقتحام مبنى الإذاعة ووقف نشرة الأخبار، والتنويه من هناك إلى أن بياناً عسكريا سُيتلى بعد قليل؟! أم أن الأمر مرده إلى أن العسكر “دقة قديمة” ولا يزالون مرتبطين وجدنيا بالراديو؟!
السؤال الأهم من أين عرفت القنوات التلفزيونية بالخبر الإذاعي؟ هل لأن مراسليها في الخرطوم كانوا يستمعون للاذاعة فأبلغوا محطاتهم بذلك، أم أن من هم بالداخل اتصلوا بهم؟ وإذا كان هذا ميسوراً، لماذا لم يهتم أحد بالوقوف على تفاصيل ما جرى، وكيف تعامل الضباط المقتحمين مع من في المبنى؟!
لقد نقلت القنوات التلفزيونية البيان صوتا وصورة من التلفزيون السوداني، وليس من الإذاعة، فلماذا كان الاقتحام لمبنى الإذاعة وليس لمبنى التلفزيون؟!
الاجابات على هذه التساؤلات لن تكون أقل أهمية، من معرفة كواليس عملية الانقلاب.. انقلاب الانقلاب على ذاته.
لقد تطور فكر العسكر.

أرض جو

منذ ثلاث سنوات وفي كل رمضان يتكرر الخبر: الراقصة “سما المصري” ستقدم برنامجاً دينياً خلال الشهر الفضيل. ومصدر الخبر هو الراقصة نفسها، التي تريد أن يستمر اسمها متداولاً بمثل هذه الأخبار، ولم يتوقف أحد ليسأل في أي قناة؟ فأحد في الحقيقة لا يريد أن يسأل حتى لا يتبدد مصدر حزنه عندما يذرف الدم الهتون على ما جرى للاسلام، ويأتي رمضان وينتهي ولا أحد يسأل ممن هتفوا “وا اسلاماه” أين البرنامج الديني للراقصة “سما المصري”.
في هذا العام، قالت إنها ستبث ابتهالات دينية في شهر رمضان، وسجلت جانبا لاثبات الجدية، لكنها لم تنتبه إلى الخطأ الاخراجي؛ لقد وضعت سماعات على أذنيها مما يعني أنها تصور ألبوما مسموعا، ومع هذا ارتدت حجابا (أقرب لملابس السجن للنساء) مما يعني أنها تصور لصالح التلفزيون، ومع عدم الجدية – كما كل عام – كاد هناك من يهتفون “وا اسلاماه”، لولا أن أحداث الجزائر، وليبيا، والسودان، غطت على الأمر!
وفروا هتافكم “وا اسلاماه” فهناك ميادين أكثر، وإن كانت تفتقد للاثارة، فإنها تستوجب الهتاف.

صحافي من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    عقبال مصر! يسقط يسقط حكم العسكر!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أحمد:

    نريدبيانا عاجلا حول أخطاء اللغة في المقال .يرحمكم الله.

    1. يقول عبد التواب العلي:

      في الرد على أحمد قال توفيق الحكيم إن الأحمق من يقرأ لي مقالا فلا تستوقفه سوى الأخطاء الطباعية

  3. يقول ياسين كزاز:

    كل هذه السخرية و تظهر جادا على “الجزيرة” أو ” مكملين”. كيف تتمالك نفسك عندما تواجه المحامي، المحلل السياسي، نائب رئيس المركز، مدير الحملة الإنتخابية،الناشط، المثقف…

  4. يقول حسين:

    الاستاذ عزوز اتا متابع لمقالاتك

  5. يقول محمد:

    من يستمعون –
    من يستمع.
    تحياتي.

إشترك في قائمتنا البريدية