في عروض الباليه الكلاسيكي التي تعتمد على القصص الرومانسية الخيالية، حيث لحظات الغرام المباغتة والوقوع في العشق على غير انتظار، وسهام الحب التي تصيب القلوب بدقة لا تخطئ ولا تطيش ولا تضيع الهدف، والأقدار التي تجمع وتفرق، يكون لرقصات اللقاء الأول أهميتها وقيمتها الجمالية الكبيرة، ودورها في انتقال الأحداث وتطور الحبكة.
كثيراً ما تناول فن الباليه أشهر القصص الرومانسية في العالم، سواء تلك التي وردت في كتب الأدب من شعر ومسرح ورواية، ومنها مؤلفات شكسبير وتولستوي على سبيل المثال، أو التي جاءت من خلال الحكايات الخرافية والشعبية، التي قد تعتبر في الغالب قصصاً للأطفال، ولا يرجع ذلك إلى معالجتها في أفلام الرسوم المتحركة، فقد تم هذا حديثاً، نوعاً ما، بعد مرور عقود طويلة على وجودها في فن الباليه، وإنما يعود السبب إلى طبيعة هذه الحكايات الأقرب إلى البراءة من التعقيد الأدبي، وما تحتويه من خيال لا تحده الحقائق أو المستحيلات، وكذلك تبسيطها للمشاعر والمفاهيم، وما تقدمه من دروس أخلاقية مثالية في الصراع بين الخير والشر، وقد كتب الخلود لهذه الحكايات، على الرغم من التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، فهي لا تزال موجودة ولا تتوقف معالجاتها في مختلف الفنون، ويتعرض لها الأطفال والكبار، إما عن طريق السرد الشفهي، أو القراءة، أو المشاهدات عبر الوسائل المتعددة، وقد اهتم كبار الموسيقيين والمصممين بنقل بعض هذه الحكايات الخرافية إلى عالم الباليه، وأجادوا التعبير عنها بالأنغام والحركات الراقصة، ولا شك في أن هذه الحكايات تلائم كثيراً فن الباليه برهافته وحساسيته الجمالية، فالحب يكاد يكون الثيمة الرئيسية للباليه الكلاسيكي على وجه الخصوص، وقليلة هي أو نادرة الأعمال الكلاسيكية البعيدة عن الحب، أما الباليه الحديث فيكون أكثر انفتاحاً على شتى المواضيع الأخرى وتعقيدات الإنسان المعاصر.
بداية الحب وذروة الجمال
في الباليه تتوارى الكلمات والتعبيرات اللغوية، وتختفي تماماً، وتتولى الأجساد سرد الحكاية رقصاً وإيماءً، على وقع الموسيقى التي تقوم هي الأخرى بالتعبير عن لحظات الحب والعشق والحزن والفرح، وكل ما يعتري الأبطال من مشاعر في سياق الأحداث، وهناك في قصص الحب دائماً ذلك اللقاء الأول بين الحبيبين، أو بين شاب وفتاة سوف يكتشف كل منهما أنه يقف أمام نصفه الآخر الذي وجده للتو، يتمثل اللقاء الأول بين العاشقين في رقصتهما الأولى، ومن باليه إلى آخر تختلف هذه الرقصة في طبيعتها وظروفها وترتيب وجودها، فقد تأتي مبكرة في بعض الأعمال مع بداية الباليه مباشرة، وقد تتأخر إلى الفصل الثاني أو الثالث من العمل، حسب طبيعة الحكاية. مع رقصات اللقاء الأول يدخل المتفرج إلى قلب الحكاية، ولب الموضوع ويصعد إلى ذرى الجمال في العمل الفني، حيث تعزف أجمل الألحان وأعذب الثيمات العاطفية بتعبيراتها البليغة، ويؤدي الراقصان أجمل الخطوات والتصميمات الحركية، وتخفق القلوب وهي ترى ذلك التجسيد الفني الرائع لمشاعر الحب على خشبة المسرح، وكيف تحول ذلك الشاب الذي كان يلهو عابثاً، أو تلك الفتاة الحزينة، وكيف تبدل حالهما وقد طبعهما الحب بلمسة نورانية شفافة، تحتفظ رقصة اللقاء الأول بجمالها ورقتها، وتحفظ الحب صافياً في لحظته البريئة الصادقة، بعيداً عما سوف يأتي بعد ذلك، سواء كانت النهاية سعيدة أو مأساوية صادمة.
عشاق ورقصات
قد لا يكون هناك أشهر من روميو وجولييت في دنيا العشاق، مسرحية شكسبير الخالدة وكذلك الباليه المأخوذ عنها بموسيقاه البديعة التي ألفها الموسيقار سيرجي بروكوفييف. تعد رقصة اللقاء الأول في باليه روميو وجولييت بداية لمأساة كبرى، سيدفع الثمن فيها هذان العاشقان اللذان هما أقرب إلى عالم الطفولة البريء من دنيا البشر، بما فيها من كراهية وأحقاد وصراعات. تعد هذه الرقصة الأولى من أكثر الرقصات رومانسية، وهي تجسد اللحظة التي يعترف فيها روميو وجولييت بحبهما لبعضها بعضا، وهما يدركان ما يمنع هذا الحب من صراع بين عائلتيهما، تمثل الرقصة قوة الحب وتشبثه بالحرية بعيداً عن القيود. تنساب الموسيقى الحالمة بعذوبة وتتنامى مع حركات الراقصين وتفاعلهما المستمر المنسجم، تتكرر الخطوات السريعة في ما يشبه الركض، كما يحمل الراقص الراقصة ويساعدها على التحليق، وينحني العاشق عند قدمي معشوقته وهناك الدوران والتمددات أيضاً.
وفي باليه جيزيل الذي يعد من أهم وأقدم العروض الكلاسيكية، بل قد يكون المثال النموذجي للباليه الكلاسيكي. تكون الرقصة الأولى بين جيزيل وألبريخت تخبئ وراءها مصيراً مؤلماً للفتاة الريفية البسيطة عليلة القلب، التي تقع في غرام الشاب الثري المخادع، الذي يعبث بعواطفها، وعندما تكتشف أن له خطيبة، لا تتحمل الصدمة وتموت، لكنها في رقصتها الأولى معه كانت ترقص وسط الطبيعة كفراشة جميلة، يداعبها سحر الحب ويكللها الخجل، تحاول أن تهرب من الحبيب، لكنه يمنعها بلطف، وتكون الحركات في الرقصة غير مكتملة في البداية بسبب خجل جيزيل، لكنها تمسك بيده أخيراً ويؤديان معاً أجمل الحركات، بما فيها من البراءة والحيوية، والقفزات الخفيفة والدورانات السريعة. وفي باليه سندريلا تتأخر الرقصة الأولى إلى أن تذهب سندريلا بمساعدة السحر الطيب إلى حفل الأمير، وبعد أن يراها يخلو المسرح وتنصرف الجموع، لتبدأ الرقصة الأولى بينهما التي تحتوي على الكثير من الحركات الأساسية، كدوران الراقصة بينما يدعمها الراقص، وحمل الراقص للراقصة والدوران بها، بالإضافة إلى العديد من التكوينات التي يشكلها جسد الراقص والراقصة. وتعد هذه الرقصة من الرقصات الطويلة، حيث تستعرض سندريلا أنوثتها وهي في أبهى حلة، سعيدة بجمالها وأناقتها وفرصتها الذهبية مع أمير الأحلام، إلى أن تنتهي الرقصة وهي تستند إلى كتف الأمير. وفي باليه بحيرة البجع أيقونة الجمال الموسيقي والراقص، ترقص الأميرة أوديت رقصتها الأولى مع الأمير سيغفريد، بعد أن تتخلص من خوفها وانغلاق ذراعيها وانكماشها على نفسها، لتحمي جسدها وأسرارها، وهي الأميرة الجميلة التي حولتها تعويذة شريرة إلى بجعة بيضاء، يكون التردد والخوف في بداية الرقصة وحركة الذراعين كجناحين ضعيفين، إلى أن تطمئن أوديت إلى سيغفريد وتصير الرقصة أكثر حرية وانفتاحاً وتتوالى الحركات المعبرة عن الحب.
كاتبة مصرية