لكم تحدثنا وتحدث غيرنا عن البرابرة أنهم قادمون ولم يصغِ لنا أحد، فما عسانا الآن نصنع وقد وصل الذين كنا نحذر من وصولهم، فلمن نوجه إذن حديثنا هذا ولم يبق أحد يصغي إلى أحد؟ ….
ها هم يلوّحون براياتهم السوداء وقد خطوا فوقها بالأبيض شعاراتهم الواعدة بالخلاص الأخير بدلاً من الطبول التي ثقبت آذاننا للبرابرة القدامى، ويجدون مع ذلك من يصدّقهم لا لأن أهل ابلد أغرار سذج وإنما لأن الحرمان العريق من الحرية في ظل سلاطين لا يشبعون ولا يرحمون قد أفقد قيمهم الوطنية والأخلاقية المتداولة قدرتها على التأثير في سلوكهم فتساوى كما يُقال الماء والخشب في وجدانهم، فإذا قيل لهم ما عساكم صانعين بالبرابرة الجدد يجيبون : المهم الآن هو أن يحصل التغيير الذي عجزنا عن القيام به بانتظار تغيّر آخر يلغي التفاوت الطبقي ويحرّر العبيد.
يقولون ذلك من دون أن يشيروا بكلمة واحدة الى التغيير الآخر الذي يحلمون به ودورهم في تحقيقه.
بهذا المنطق المثير للشفقة تغُسل أدمغة البشر مع فارق أساسي هو أن البشر يواجهون في هذه المرّة برابرة مُقنعين بالقداسة فإذا ظفروا لم يتغير نظام الحكم كثيراً بل يظل على حاله من القسوة والاستبداد.
هكذا علمنا التاريخ ولم نتعلم أن تغير البرابرة فيما بينهم لا يعني خلاصاً حقيقياً ما دامت السُلطة تحوُل الحاكم الجديد إلى مستبد جديد فما العمل؟
إذا كانت السلطة مفسدة حقاً فلا بد إذن من تفكير جديد يعالج مفهوم السلطة وتاريخها ما دامت هي السبب الأساسي لمرض الاستبداد كما نصنع مع الأمراض المستفحلة وذلك بتحصين الأجساد منها بالوقاية لا بالعلاج وحده، فما هي هذه الوقاية القادرة فعلاً لا قولاً على حماية البشر من مضاعفات احتكار الحكم وتحوّله إلى استبداد مطلق؟ ………
ماذا تقول الانتروبولوجيا في هذا الصدد؟
أذكر أني قرأت مرّة بحثاً مطولاً للعالم الأنتروبولوجي ‘بيتر كلاستر’ يصف فيه أنظمة الحكم في العهود البدائية حين كان البشر قبائل تتصارع دوماً على الماء والكلأ والأرض، وأن هذه الحروب والغزوات بينها كانت تخلق أحياناً محاربين أشدّاء يسهمون أكثر من غيرهم في صناعة النصر وكيف يعاملون من مجلس مشايخ القبيلة الذي كان يحكم القبيلة إذْ كان هذا المجلس بعد النصر يصدر قراراً بإسناد وظيفة إلى هؤلاء المحاربين تلزمهم بالبقاء في المنازل عند نشوب حرب جديدة وتكليفهم بدلاً من القتال بمساعدة النساء في تحضير الطعام والعناية بالأطفال حذراً من أن يغدوا أبطالاً خارقين في نظر أفراد المجتمع القبلي ويتحولوا إذا ما ظفروا من جديد إلى حكّام مقدسين مستبدين كما يحدث في ظاهرة ‘عبادة الفرد’ التي خرّبت وما تزال تخرّب في بعض البلاد وتؤدي إلى انهيار المجتمعات الخاضعة لها.
لا ريب في أن هذه الملاحظة التي استقاها العالم المذكور أنفاً تعني أن مجلس شيوخ القبيلة كان يحكم بأسلوب تشاوري قريب من الديمقراطية وأنه بتصرفه مع المحارب البارز كان يحذر من احتكار صلاحيات الحكم إذا ما تسلط أحد هؤلاء المحاربين الأشداء على الحكم فيتحول إلى حاكم مستبد، فأبعده المجلس عن فرصة البروز مرة أخرى في الصراع كما حدث لغيره كما يبدو احتراساً من أن يركبه الغرور والطمع بالانفراد بالسلطة وقد تحول في نظر القبيلة إلى بطل مغوار جدير بأن يغدو قائداً حاكماً.
الحكم في المجتمعات الحديثة
لم يكن ضرورياً بالتأكيد أن تلجأ المجتمعات الحديثة إلى الطريقة القبلية ذاتها بل صار ممكناً الاستفادة منها ولكن بأسلوب ديمقراطي جديد أكثر نضجاً، كما حدث في بريطانيا مثلاً فقد كان الملك في ذلك القطر قديماً حاكماً مطلق الصلاحيات إلى أن تدخل قائد عسكري اسمه ‘كروم ويل’ قام بثورة أبطلت هذا التقليد الملكي العريق الموغل في العنف والاستبداد، غير أن كروم ويل لم يستطع تغيير الأمور كلياً إذ لم يلبث أن عاد النظام هناك إلى الملكية بعد وفاة كروم ويل ولكن بشكل جديد يجرد الملك من أهم صلاحياته ومن دون أن يلغي النظام الملكي بل أبقاه بهذا الشكل الجديد محوّلاً صلاحيات الملك إلى الحكومة التي تمثل الأكثرية البرلمانية وبهذا الحل حافظ البريطانيون على جلال الماضي المجيد شكلاً لا مضموناً بعد تحول صلاحيات الحكم إلى البرلمان وحكومته الحائزة على الأكثرية النيابية من خلال التصويت العام البالغ الدقة والنزاهة.
لم يعد ممكناً إذن اللجوء إلى أساليب المجتمع القبلي البدائي، ذلك أن المجتمعات الحديثة أبقت للبطل فرصته في المشاركة بالحكم بالسماح له بخوض انتخابات نواب البرلمان كأي مواطن آخر وتركت للشعب الواعي عبر التصويت أن تعيده للحكم أو تبعده عنه كما حصل في بريطانية مع ‘تشرشل’ الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الثانية ضد النازية الألمانية وحوّله الشعب إلى بطل الحرب غير أن نتيجة الانتخابات جاءت بعكس المنتظر منها إذ فاز الحزب المنافس لتشرشل بزعامة ‘أتلي’ وكأن الشعب قام بإبعاده كما يصنع مجلس مشايخ القبيلة في العصر البدائي ولكن بأسلوب آخر حذراً من تحوّل بطل الحرب إلى زعيم مستبد.
بهذا التصرف الحكيم أثبت الشعب البريطاني أن نظام الحكم القائم على احترام الحرّيات العامة والاحتفاظ بالأسلوب الديمقراطي هو التغير الأرقى والمنشود من قبل البشر منذ قرون سحيقة وأن أي نظام للحكم يلغي الديمقراطية والحريات العامة مكتوب على البلاد التي يخنقها أن تظل تعاني من التخلف والتمزق والخراب كمعظم الأقطار الإفريقية والآسيوية حتى الآن.
قولوا إذن للبرابرة أياً كانت أثوابهم التي يتسترون بها وشعاراتهم التي يرفعونها وطبولهم التي يقرعونها قولوا لهم إنكم لن تصلوا أبداً إلى مبتغاكم وإن قيل أنكم وصلتم فالبرابرة لا يصلون أبداً إلى حدائق الحرّية.
البرابرة موجودون بيننا , انهم يدمرون المدن الحضرية بالبراميل المتفجرة الغبية و صواريخ أرض-أرض و يعيثون في الأرض فسادا حيث حلوا. البرابرة هم الشبيحة. ولكن مهلا البرابرة تدمر مدن وممتلكات بلدان الأخر اذا فبرابرتنا اسوأ لانهم يدمرون البلد الذي حواحم أربعين عاما. اذا فبرابرتنا اشد سوء.