البرازيل العربية… قهوة وكرة وليالي أرق ودم

حجم الخط
0

جائير بولسونارو صار رئيساً للبرازيل، وانطلقت التعليقات وحملة التخويف من أن سيناريو «ترامب» يتكرر في القارة اللاتينية، اشتغلت مواقع التواصل، ومعها صحف ووكالات أنباء، في تهيئة الناس لأيام رمادية، لا طعم لها، إلى درجة نشعر فيها بأننا صرنا لا نُبدع سوى في تجييش العواطف، وتنمية الرعب، في قلوب الناس. فمن لا يعرف البرازيل ـ جيداً ـ أو من ينظر إليها، من خلف حجاب، أمام شاشة كومبيوتر أو تلفزيون، يعتقد أن ذلك البلد وقع وليمة في مائدة المُحافظين، أنه صار مثل شاة تتخبط، مع أن الأمور كلها حصلت بمنطق، كما لو أنها مُعادلة رياضية. ولفهم كيف وصلت البرازيل إلى ما هي عليه، سنجد بعض الإجابات في كتاب «كنت في البرازيل» (دار الأمة، الجزائر 2018) للجزائري نجم الدين سيدي عثمان.

 دخل سيدي عثمان إلى البرازيل خائفاً وخرج منها حائراً، حيث يذكر في بداية الكتاب ذلك الهلع الذي أصاب ركاب الطائرة، بعد أن باغتهم ربانها بنبأ صادم عن اقتراب نفاد الكيروسين.

سيدي عثمان دخل إلى البرازيل خائفاً وخرج منها حائراً، حيث يذكر في بداية الكتاب ذلك الهلع الذي أصاب ركاب الطائرة، بعد أن باغتهم ربانها بنبأ صادم عن اقتراب نفاد الكيروسين. لم يصدق ـ بعدها ـ أن الطائرة نزلت بسلام، خرج منها، بوجه ممتعض، وأول ما خطى إلى خارج المطار، صادفته رائحة صابون معطر، تلك هي رائحة الجنازات نفسها، التي لم تُفارق الكاتب في يومه الأولى. قضى بضعة أسابيع في البرازيل، برغبة في تدوين كل ما يراه وما يسمع عنه، حتى أن القارئ يشعر بهواجس المؤلف، فهو لم يستمتع بتلك الرحلة، بقدر ما كان مهموماً بتدوين كل تفصيلاتها. لم يعشها كسائح، بل ككاتب مشغول بالتلصص عما يدور حوله. بدون مسودة أولى في 2014، قبل أن يعود إليها ويتمها في 2018. في فصول قصيرة وشعرية، بكتابة مستفزة، تتقاطع فيها صور وألوان، وكثير من الصدمات ومن المواقف المُفاجئة، تلتقط كل ما يمر أمام عينيه. سافر سيدي عثمان إلى البرازيل، بغرض مُرافقة منتخب كرة القدم الجزائري، في مونديال السامبا، وقد يتخيل القارئ أنه بصدد كتاب عن الكرة وما حصل وقتها، لكن سرعان ما يُدرك أنه بصدد كتاب رحلة، من نوع آخر، لا تظهر فيه كرة القدم سوى في صفاتها الجمالية، كخلفية تحرك خيوط الحكايات، بحكم أنها فصل من تاريخ بلد، فالكرة نفق مُضيء، يمكن أن نقرأ من خلالها سيرة شعب، هواجسه وانكساراته وأفراحه الصغيرة، يتعامل معها الكاتب كجزئية، قبل أن ينصرف في توصيف الحياة العامة في برازيل تختلف عما وصلنا عنها من قصص ومن كليشيهات.
«في البرازيل نكتشف، كل ربع ساعة، مفاجأة»، نقرأ، لكنها ليست دائماً مفاجآت سارة. يطلعنا المؤلف على تلك المفاجآت، في المطبخ البرازيلي، في بهاراته، وروائحه القوية، في أكلات إيكزوتيكية، وأخرى ابتدعت لمُنافسة الماكوندولدز وأخواتها، ويعرفنا على مشروب الغوران، الذي أرادوه منافساً محلياً للكوكا كولا، ويُجالس الناس البسطاء، في المطاعم الشعبية، وهو لا يفهم البرتغالية، لكنه يعتمد على قاموس وعلى مساعدة من عرب مقيمين، في الترجمة، كي تكتمل الصورة في ذهنه، ويرفقها للقارئ، بتفصيلات ثانوية.

كتاب «كنت في البرازيل» مختبر صغير، للتخلص من الأحلام الوردية عن البرازيل، هو دليل القارئ بالعربية، لمعرفة البرازيل الأخرى، اللامرئية، ومُساءلة جادة، كيف يمكن لبلد أن يمحو، في لحظة ما، تاريخاً طويلاً، وينقلب عليه، ولا يتعلم من سقطات ما مضى.

في النهار، كان الكاتب يصرف وقته بين متابعة الكرة، والتسكع في الحارات والساحات، في الشواطئ، التي ليست للسباحة، بقدر ما هي ميدان «لنحت الأجساد»، حيث يحدثنا عن هوس البرازيليين بأشكالهم، وكيف أنهم صدّروا نموذجاً للأناقة، يشقون في بلوغه، يقطعون من أوقات العمل، كي يجدوا وقتاً للرياضة والنحافة، ولكن في الليل تنقلب الحياة إلى النقيض، تصير مدن البرازيل أرضا للخوف، حلبة واسعة لاستعراض الأجساد، التي نحتوها، في النهار، وأكثر من مرة وجد سيدي عثمان نفسه يُجاور الجرائم، في الفافيلا وفي المقاهي والحانات الشعبية، كما لو أن البرازيليين يعيشون حياتين، الأول مُسالمة في النهار، موجهة للسياح، الحاملين معهم العملات الأجنبية، والثانية تقتسمها جماعات متحاربة، في المساء، هكذا يتقدم في سرد رحلته، وفي هدم الكليشيهات، التي ترسخت عن ذلك البلد، على أنه بلد القهوة والرقص والكرة لا أكثر، وننسى، في خضم ذلك، أنه أيضاً بلد اللاأمن. بلد حيث لا أحد يثق في الآخر. فمن خلال قراءة «كُنت في البرازيل» سنخرج باستخلاص مفاده أنه بلد «الاحتمالات كلها»، لا يستأنس بالاستقرار، بل يعيش هيجاناً داخلياً، بلد أرق، قليلاً ما ينام، وهو أيضاً بلد المعارضات، لا يمر فيه قرار حكومي، ببدون أن تنتصب أمامه معارضة، بما في ذلك تنظيم كأس العالم، رغم ما وفر للبرازيل من مليارات في الخزينة العمومية، فقد وجد أمامه من يعارضه، ومن التناقض أن رأس المعارض كان اللاعب السابق روماريو، وهنا يتساءل الكاتب: ماذا كان روماريو يساوي لولا كأس العالم 1994؟ كل شيء يصير ممكناً في برازيل تعودت أن لا تستقر سوى لتنتفض على نفسها.
ولم ينس سيدي عثمان تلك العلاقة التاريخية بين الجزائر والبرازيل، التي كان سبباً فيها المعماري أوسكار نيمار(1907-2012)، الذي وصل إلى الجزائر، في نهاية الستينيات، هرباً من الديكتاتورية العسكرية في بلده، وخطط لعدد من المنشآت، التي ما تزال قائمة، لحد الساعة، من بينها القاعة البيضاوية، والمدرسة متعددة التقنيات، في الجزائر العاصمة، جامعة تيزي وزو وجامعة قسنطينة، لقد جاء أوسكار إلى الجزائر بينما البرازيل كانت تواجه مصيرها الأصعب، وهي اليوم تكرر التجربة مع جائير بولسونارو، الذي لم يخف حنينه للماريشال برانكو، الذي قاد انقلاباً عام في 1964، وأطال في عمر حكم العسكر عشرين سنة. فهل تتهيا البرازيل ـ اليوم ـ لمرحلة مشابهة، يشتد فيها حكم الرجل الواحد، ولا يجد فيها مبدعوها من حل سوى الهروب منها؟ يبدو سؤالاً سابقاً لوقته، لكن خيار الهروب من البلد لا يمكن أن نتفاداه، وذلك ما نشعر به، من مواصلة قراءة «كنت في البرازيل»، فرغم الجغرافيا الشاسعة وطول البلد، وتعدده، وهجانته، لا يزال الانغلاق في الهوية مستمراً، فواحدة من الكلمات، التي كانت تتكرر على مسامع الكاتب هي «غرينغو»، وتعني الغريب، وتطلق على كل شخص لا ينتمي للجماعة، ولا ينخرط فيها، حيث ليس صعباً على برازيلي سماعها، ويصير غريباً في بلده.
كتاب «كنت في البرازيل» مختبر صغير، للتخلص من الأحلام الوردية، التي سمعناها عن البرازيل، هو دليل القارئ بالعربية، لمعرفة البرازيل الأخرى، اللامرئية، ومُساءلة جادة، كيف يمكن لبلد أن يمحو، في لحظة ما، تاريخاً طويلاً، وينقلب عليه، ولا يتعلم من سقطات ما مضى.

٭ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية