ما أصدق القول إن الوطنية أحياناً نوعٌ من ملاذ، مجرد ملاذ. تذكرت ذلك فيما يتداول البعض انسحاب تميم البرغوثي (البعض سمّاه اعتذاراً، لكن لدى الشاعر من الأنا ما لا يسمح له بارتكاب هذه الفضيلة) من أبيات شعر قالها في بغداد، على هامش معرض الكتاب، فأثار عاصفة غُبارية لم تهدأ حتى الساعة، أيقظَ شتائم ومفاخر وفتناً كانت غافية إلى أن قال، من قلب دار الحكمة، بغداد، قولته:
تصيح زينب يا مولاي يا سندي…
يا والدي وابنَ أمي ثم يا ولدي إن الحسين عراقٌ حَلَّ في جَسد… إن العراق حسينٌ آخر الأبد
ودَهْرُهُ أموي ما لَهُ شرفُ
الفتنة استيقظت مع العبارة الأخيرة التي يسيء فيها البرغوثي للأمويين (أولئك الذين قال عنهم سعيد عقل في قصيدة بديعة: أمويون فإنْ ضِقْـتِ بهم، ألحقـوا الدنيا بِبسـتان هشـام) فَيَصِمُهم بانعدام الشرف.
هنا، مع هجوم شرس في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مساحات ومنابر شتى على الشاعر وقصيدته الخائبة، أراد أن يستدرك ويحاول استرضاء الجمهور الذي صنعه في الأساس، وما هو إلا صنيعة جمهور تلفزيوني بالذات، فكتب تبريراً مطولاً، وهنا تذكرت الملاذات التي يلجأ إليها الخائبون، إذ يفتتح كلامه بالقول: «لبنان يقصف تل أبيب، وبعض المنابر العربية مشغولة باقتطاع جزءٍ مِن قصيدة مِن سياقه لإثارة الفتنة والنعرات الطائفية بين الناس».
وبالطبع كان الأولى بالشاعر نفسه، إنْ كانت تعنيه الوطنية وقلة النعرات إلى هذا الحد، أن يؤجل، على الأقل، قصيدته، كان أولى أن يقول شيئاً عن غزة، أو لبنان، ولا شك أن كنانته لا تنفد من القصائد البطولية. كان بوسعه هو أن يؤجل القصيدة وينيم الفتنة، التي أيقظها من دون أن يرف له جفن، أو ترتجف ساق.
في الباقي من تبريره، يرتكب البرغوثي ما هو أكثر فداحة من اللجوء إلى الوطنية كملجأ، فلربما كان يملأ العين أكثر لو كان لدى الشاعر رؤية متينة يفسر بها يقينه الشعري، غير أن انسحابه مخجل بعض الشيء، فهو يتكئ على حجة غير معهودة في الشعر، حجة مستعارة من عوالم المسرح والسينما والرواية والدراما التلفزيونية، حيث تستلزم كل تلك الأنواع وجود عدد كبير، في الغالب، من الشخصيات، ويستحيل أن يكون كل ما تنطق به ممثلاً للمؤلف، فمعلوم أن للشخصية منطقها، وهي تنسجم مع بيئة الشخصية وطموحاتها وتاريخها وموقعها في الصراع إزاء شخصيات وقوى مقابلة.. يصطاد البرغوثي هذه الفكرة، فيزعم أن الأبيات المقتطعة إنما هي لسان حال زينب، إذ يقول: «تصيح زينب يا مولاي يا سندي..»، وبالتالي فإن الشاعر يتنصل من الشتيمة ويلصقها بواحدة من شخصيات القصيدة، وما عهدنا أن تكون هذه الأخيرة، عنده، مسرحاً شعرياً، على غرار حواريات أحمد شوقي أو صلاح عبد الصبور أو السياب أو محمد الماغوط.
لكن الأهم مما عهدناه أو لم نعهده أن أداء الشاعر نفسه هو ما يكشف عن قدر تبنّيه الشخصي للأبيات، فلو كانت زينب هنا هي صاحبة الأبيات، لو كانت القصيدة لسان حالها، لَجاءَ الإلقاء خافتاً أكثر، حزيناً، متفجعاً، مكسوراً، فيما أدّى البرغوثي قصيدته بالضبط كما ألقى غيرها، بالمنبرية والعنتريات والضجة نفسها، بل إن الشتيمة (ما له شرف) تُلْفَظ كما نسمعها في أي مشاجرة شارعية.
إذن، فإن لغة الجسد، والإلقاء، تكشف وجهة الشاعر، لن يستطيع أن «يخفي ما الله مُبديه»، وهو على أي حال لم يستطع حتى إخفاء فرحته بردّة فعل الجمهور، المصفّق، المطبّل، المبتهج بالشتيمة.
بصراحة، ليس هذا هو الشاعر، لا في قوله الشتّام بالأساس، ولا في تنصّله، لنتذكر هنا بيت الشعر الذي قتل المتنبي، عندما ذكَّرَه به خادمُه: ألستَ القائل «الخيل والليل والبيداء..»، فلم يستطع أن يهرب أو يتراجع صوناً لكرامته. ولا هو الشاعر الذي يمكن لعظمة وروعة شعره أن تبقينا على الاستماع له وقراءته. هو ليس سوى ضجةٍ، صخبٍ، قرع طبول كرّسه التلفزيون.
انظر إلى تشدقه، في المقالة التبريرية نفسها، باستقبال رئيس الحكومة له، بعبارة لا تجد مكاناً لها في كلامه، ولا سبب لها غير المنفخة.
سمعته مرة يقول، في ظهور تلفزيوني مصوّر، واثقاً من وقوفه أمام جمهور عريض، بحسب نسب مشاهدة فيديوهاته: «من شاءَ فليحفظ عني: أيها الناس إن».
قلت حينها إن آخر من تحدّثَ بهذه اللغة، في خطاب، كان الأنبياء (حتى هؤلاء، غالباً ما يتخيلهم المرء على هيئة شعراء خافتي الصوت، لا منابر ضاجّة لهم)، أو ربما أحد الخلفاء.
كيف يمكننا إقناع شعراء اليوم أن الشعر كتابة، لا منابر، صوت خافت، لا سبابات مرفوعة، دروب تشق في الغابات، والجبال، والأزقة الفقيرة، المزدحمة بالفقراء الذين لا يملكون أجهزة تلفزيونية أو وموبايلات حديثة، إنها تماماً في الجهة المعاكسة لجمهور «شاعر المليون»، وما يطلبه الجمهور.
كاتب من أسرة «القدس العربي»