البرلمان الألماني وتبني السردية الإسرائيلية

يبدو أن ألمانيا لن تتخلص من عقدة الشعور بالذنب، لما ارتكبته بحق الملايين من اليهود خلال الحقبة النازية. ومن عادة الألمان أن يكونوا أكثر موضوعية في العديد من القضايا السياسية، إلا عندما يتعلق الأمر بالمحرقة والتكفير عن ذنوبهم بالخروج عن كل أنواع الموضوعية، لإرضاء إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب العدل والحق والقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وهذا هو أقرب تفسير للسقوط الأخلاقي والقانوني، لما اقترفه البرلمان الألماني يوم الجمعة الماضي، عندما اتخذ قرارا يصنف حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات منها وتطبيق العقوبات عليها، المعروف باسم (BDS) بأنها معاداة للسامية. فقد صوتت غالبية أعضاء البوندستاغ لصالح القرار، بعد أن حشدت مجموعة من أحزاب اليمين لهذا القرار، من بينها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي تتزعمه المستشارة أنغيلا ميركل.
وصف القرار حركة المقاطعة بأنها «تذكر بالمرحلة الأفظع في تاريخ ألمانيا إبان الحقبة النازية والحملة ضد اليهود». فكيف تتحول الدعوة لإنهاء الاحتلال ووقف الممارسات العنصرية ضد الفلسطينيين ومقاطعة اقتصاد المستوطنات التي تقر ألمانيا رسميا بأنها غير شرعية، إلى معاداة للسامية وكيف يصبح انتقاد سياسات إسرائيل العنصرية مطابقا لانتقاد وكراهية اليهود كيهود؟ وقد وصفت حركة المقاطعة نفسها هذا القرار بأنه «معاد للفلسطينيين وخيانة للقانون الدولي والديمقراطية الألمانية».

لا ينتصر الحق لوحده بدون أن يكون هناك مناضلون يصنعون الانتصار

الخوف أن يكون هذا القرار بداية لا نهاية، تتبعه قرارات شبيهة في أكثر من برلمان وصولا إلى قرار في البرلمان الأوروبي، الذي يستعد لجولة انتخابات جديدة بين 23 و 26 من الشهر الحالي، يشارك فيها 427 مليون ناخب يتنافسون على 751 مقعدا للمرة التاسعة في تاريخ الاتحاد. فأحزاب اليمين والاتجاهات الشعبوية على طريقة ترامب بدأت تنتشر بشكل غير مسبوق في دول أوروبا. وأحزاب اليمين هذه تقوم أساسا على ركنين أساسيين: معاداة المهاجرين، خاصة المسلمين منهم، والتقرب من إسرائيل ودعم سياساتها والتماهي مع مواقفها. إذن نحن أمام ظاهرة غير مسبوقة في تبني السياسات الإسرائيلية المتطرفة، ازدهرت واتسعت عالميا في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وانتشرت في أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية، والآن تخترق أوروبا الغربية وإفريقيا. وبتنا نخشى أن نقول قريبا «أتركوا لنا جنوب إفريقيا»، ردا على ما كتبته «هآرتس» عام 1974 بعد موجة عالمية لقطع العلاقات مع إسرائيل، خاصة في دول إفريقيا «أتركوا لنا كوستا ريكا».
وللعلم ففي الوقت نفسه الذي يمرر فيه البرلمان الألماني هذا القرار المجحف، يتقدم 400 عضو من مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس الأمريكي بمشروع قرار للرئيس، يطالبونه بمزيد من الدعم لإسرائيل، وكأن الرئيس لا يدعم إسرائيل بما فيه الكفاية. حثت الرسالة المكتوبة التي بعث بها عضوان، واحد ديمقراطي والآخر جمهوري، ترامب على ضمان الدعم الشامل لإسرائيل، بحيث تحافظ على تفوقها العسكري النوعي في المنطقة، إلى جانب تصعيد الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على روسيا وإيران.

خطورة القرار وسبل المواجهة

لا شك بأن قرار البرلمان الألماني خطير ويمكن أن تكرّ المسبحة وتلحق به برلمانات أوروبية أخرى، خاصة في ظل صعود الأحزاب اليمينية التي تنتشر في أوروبا بشكل غير مسبوق. إن السكوت الرسمي على قرار البرلمان الألماني باستثناء بيانين هزيلين من منظمة التحرير الفلسطينية والجامعة العربية، سيؤدي حتما إلى تشجيع البرلمانات الأوروبية الأخرى. ويبدو أن إسرائيل تتعمد اختراق البرلمانات التي شهدت في مؤتمراتها الدورية هزيمة معنوية وإذلالا لممثلي الكنيست، وطردهم من الإجتماعات، بسبب تبنيه لسياسة قتل الأطفال وهدم البيوت ومصادرة الأراضي، كما قال مرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة الكويتي، في مؤتمر اتحاد البرلمان الدولي في روسيا عام 2017. أمام هذا القرار الخطير وعجز المؤسسات العربية الرسمية يجب أن يقوم المتخصصون في القانون من العرب والمسلمين وأصدقائهم في أوروبا وألمانيا خاصة، بتحدي هذا القرار وحصره في الجانب المعنوي غير الملزم. وعلى اللجنة القانونية التابعة للاتحاد الأوروبي للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين، التي انبثقت عن المؤتمر الرابع في لاهاي في ديسمبر/كانون الأول 2018 وأعيد تنشيطها وتزويدها بطاقات جديدة في المؤتمر الخامس، الذي عقد في بروكسل في إبريل/ نيسان 2019 أن تقوم بمجموعة من الخطوات المدروسة للتصدي للقرار ومنها:
– رفع قضايا في المحاكم الألمانية والأوروبية ضد هذا القرار، واعتباره تدخلا في حرية الرأي، وحق الأفراد في ممارسة قناعاتهم في حرية الرأي والتجمع والأنشطة السلمية، في ظل القانون وإثبات أن قرار البرلمان ينتهك كل تلك الحقوق. فهل من حق البرلمان أن يلزم الأفراد بشراء بضائع مصنعة في المستوطنات الإسرائيلية تخوفا من معاداة السامية.
– يجب أن يقدم المختصون القانونيون دراسة وافية لقانونية حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على ممارسات دولة الاحتلال. ويجب توزيع هذه الدراسة بكافة اللغات الأوروبية على أعضاء البرلمانات، وممثلي الأحزاب وناشطي المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان.
– نشر مقارنة حقيقية بين ممارسات نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وطبعته الجديدة الأكثر بشاعة في تل أبيب. وهذه الدراسة تضم الصور والوقائع والقوانين والتعليمات التي تصدر عن سلطة الاحتلال، بما في ذلك قانون القومية الذي يستند إلى أرضية عنصرية تمنح الجنسية وتمنعها على أساس ديني عرقي وهو جوهر نظام الأبرثايد.
– إنشاء منصات إعلامية حول الممارسات الإسرائيلية اليومية باللغات الأوروبية، والعمل على نشر أخبار الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان للفلسطينيين. ويجب رفع قضايا أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، حتى لو لم يتم كسب تلك القضايا، فمجرد عرضها والدفاع عنها من شأنه أن يخلق رأيا عاما مساندا.
– التركيز على نشر معاملة إسرائيل للأطفال الفلسطينيين، في انتهاك واضح للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وقوانين حقوق الإنسان، واتفاقية جنيف الرابعة. فمثلا عملية احتجاز الأطفال الفلسطينيين تخضع لنظام عسكري وليس مدنيا. بموجب هذا النظام من القانون العسكري، يقوم الجيش الإسرائيلي بشكل روتيني باعتقال الأطفال الفلسطينيين. فبين عامي 2012 و2015 ، قابلت منظمة الدفاع عن الأطفال الدولية – فرع فلسطين أكثر من 400 طفل فلسطيني – ثلثهم تقريباً دون سن السادسة عشرة. ووجد أن الكثيرين اعتقلوا في منتصف الليل. وكان معظمهم معصوبي العينين وأياديهم مقيدة. وذكرت أغلبيتهم أنهم تعرضوا للإيذاء الجسدي أثناء اعتقالهم، وأبلغ ربعهم عن تعرضهم للإيذاء البدني أثناء استجوابهم في الحجز. وأثناء الاحتجاز – الذي يمكن أن يستمر من 24 إلى 96 ساعة – تم استجوابهم جميعهم تقريبًا في غياب والديهم أو محامٍ. الأمر الذي يساعد في توضيح سبب قيام منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) بالإبلاغ عن أن «سوء معاملة الأطفال الفلسطينيين الذين يتعرضون للاعتقال العسكري تبدو واسعة الانتشار ومنهجية ومؤسسية».

إمكانية الانتصار

إمكانية التصدي لهذا القرار عبر القانون واردة. ففي أغسطس/آب الماضي طردت المعلمة الفلسطينية بهية عماوي من عملها كإخصائية نطق في إحدى مدارس مدينة أوستن بولاية تكساس، بسبب رفضها الموافقة على فقرة تتعلق بإسرائيل أضيفت مؤخرا لعقد العمل تنص على التعهد بعدم المشاركة في أي عمل من شأنه الإضرار بالاقتصاد الإسرائيلي.
ورفعت عماوي دعوى قضائية لدى المحكمة الفيدرالية في تكساس، ضد المدرسة، تتهمها فيها بانتهاك حق حرية التعبير، الذي يكفله الدستور الأمريكي. وقد ربحت عماوي القضية في إبريل/نيسان الماضي وأعيدت إلى عملها. وأشار القاضي الفدرالي روبرت بيتمان إلى عدم دستورية قرار الولاية بطرد بهية من عملها. وفصّل القاضي حكمه في مذكرة من 56 صفحة، أشار فيها إلى أنه لا يحق للولايات أن تصدر تشريعات، وتتبنى قوانين من شأنها حظر مقاطعة إسرائيل، كشرط للحصول على فرص عمل حكومية. وهناك حالات شبيهة في الساحة الفرنسية حيث رفعت دعاوى من قبل جمعيات صهيونية ضد ناشطين فرنسيين في حركة المقاطعة، وكانت قرارات المحاكم أن هذه النشاطات تقع في إطار حرية الرأي وممارسة التضامن مع شعب يقع تحت الاحتلال. ما تريده إسرائيل من العالم هو تقبلها كدولة أبرثايد، أي لليهود فقط، والتعامل معها بدون حتى الإشارة إلى احتلال الأرض الفلسطينية والعربية. وهذا ما لا يقبله معظم شرفاء العالم، لكن لا ينتصر الحق لوحده بدون أن يكون هناك مناضلون يصنعون الانتصار.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عائشة، المغرب:

    شكرا أستاذ صيام لهذا التنوير وللاقتراحات القيمة التي أرجو أن تجداستجابة سريعة ومرضية. من المحزن حقا أن يُضطر الفلسطينيون بذل جهود إضافية من أجل إقرار حقهم في المقاطعة والمقاومة السلمية في الوقت الذي يحاولون فيه أن يركزوا جهودهم على ترتيب البيت الفلسطيني واستحداث مقاومة تتماشى مع المستجدات الخطيرة للقضية.

إشترك في قائمتنا البريدية