أقلق راحتنا صوت كلب يأتي من جهة البساتين. حصل ذلك في النصف الأول من الستينيات، حينما انتشرت الدبابات في الشوارع، بعد انقلاب آذار/مارس.
وللعلم بالشيء كنا نقطن في محلة الحريري، وهي ضاحية وراء الحدود الإدارية لمدينة حلب، ولها شكل قوس أو حدوة حصان. وكانت الجدة تقول عنها: هذه الحارة تشبه قرن الفول. وأعتقد أنها محقة بذلك، فالبيوت مصفوفة على طول خط متعرج، ويحدها جبل الإذاعة من طرف، ومن الطرف الآخر مزرعة «أبو زمر». والحقيقة أنني لا أعرف اسمه الحقيقي، ولكنه مشهور بهذا اللقب، مع أنه لا يغني ولا يعزف. وكانت مهنته العناية بقطيع من أبقار الحليب. وإذا رأيتها في الليل تعتقد أنها فوج من الإبل. فقد كان في وسط ظهرها حدبة تشبه السنام، ولذلك كان جارنا سركون يسميها «الحدباء».
سألته: من أين اخترع هذا الاسم؟
قال وهو يشخر ويبصق: من مئذنة في العراق.
والشخير والبصاق إحدى عاداته المستدامة، فهو يدخن كثيرا، ولا يوفر أي نوع من أنواع التبوغ. ودائما حين يتكلم تعتقد أن لقمة تسد أنبوب حلقه. بمعنى أنه يبعبع. وكان يكرهني على الاستماع لقصائد نزار قباني وهو يتلوها بجلسات سرية بصوته الغليظ والمخنوق، فقد كان شعره ممنوعا من التداول.
حاولت أن أتحرى عن هذا الكلب في ضوء النهار، ولكن شاهدني أولاد «أبو زمر» ورموني بالحجارة، وأصابوني في رأسي، بحجرة مسننة كرأس الرمح. ولدى العودة إلى البيت بدأت الجدة تلطم وتصيح: يا ثابت. تعال وانظر. أبناء الشوارع ضربوا ابنك. (وثابت اسم والدي). جاء الوالد يهرول وبيده مسبحة كاربا ذات الثلاث والثلاثين حبة، تلمع في الظلام، وحاصرني بالأسئلة كأنني في تحقيق.
أولا سألني إن كنت أشعر بالإغماء.
قلت له: كلا.
ضغط بإبهامه على الجرح وسألني: والآن..
طبعا زعقت من شدة الألم، فقد غرس نصف ظفر إبهامه في عظام جمجمتي كأنه يدق فيها مسمارا من المعدن.
قال: هل آلمتك؟
كذبت عليه، وقلت: أبدا.
قال: ولماذا زعقت إذا؟
وكانت الوالدة قد وصلت، وبدأت تؤنبه على أسلوبه. ثم وقفت بيننا وصاحت: ربما يحتاج الولد لإبرة كزاز وأشعة.
ثم أضافت: اتركه الآن لي.
ثم قادتني إلى المطبخ لتطهير الجرح. وباشرت بالنفخ عليه حتى برد. ثم سألتني وهي تبلل إسفنجة، وتمسح خيوط وبقعة الدم: اصدقني القول. من ضربك؟
دمدمت بصوت خافت.
تابعت التنظيف وهي تقول: لم أسمع.
فأخبرتها بالحكاية. ولم أنتبه أن الوالد كان يتنصت علينا. وهذه واحدة من عاداته، وورثها من أيام عمله في مؤسسة البريد والبرق والهاتف حين كان عامل سنترال، ويهوى اختلاس السمع على المكالمات. وكلما سمع قصة طريفة يرويها لنا وهو يضحك. وكانت الجدة تزجره بقولها: عيب يا ثابت. والله عيب. وأحيانا تضيف عبارتها المشهورة «من راقب الناس مات هما».
وكان الوالد يبلع ضحكته ويقول: ولكن الهموم طمرتنا، ولم يشرفنا عزرائيل آغا.
ثم يغادر الغرفة إما إلى بقال أو صيدلية في المحلة. وهناك يجد أذنا مصغية لحكاياته، ويتبادل مع الموجودين التعليقات والضحك، وعلى الأغلب وهو يلهو بمسبحة الكاربا، وكأنه يلعب بسكين أو سلسال من الذهب. لم أكرر زيارة حقول «أبو زمر»، وتابع الكلب نواحه المؤلم. وكان رأي الجدة أنه ذكر وينادي زوجته.
سألتها: وهل للكلاب زوجات؟ كانت تطرز رقعة كانافا للزينة، وهي ماهرة بهذه الحرفة، ولدينا على الجدران عدة نماذج من صنع يديها.. إحداها تحمل صورة غزال بجانب بركة يترقرق فيها ماء فيروزي أو أزرق.
قالت مع ابتسامة: لولا ذلك لما بقي في البلد كلب واحد.
ولكن بقي عندي شك في كلامها. كانت الجدة في غاية الذكاء. وأرى أنها مثل مريم العذراء. ويكفي أنها تعيش معنا وحدها فقط. دون رجل. وسبق لي أن سألتها عن جدي.
قالت: جدك فوق.
ورفعت يدها، وكان بين أصابعها مسلة التطريز، فالتمعت مثل حبات مسبحة الوالد.
قلت لها: فوق أين؟
قالت: عند ضرتي. مدام حواء.
ثم انفجرت بالضحك.
ولكن تشكل عندي وهم أنها حبلت بوالدي بلا دنس، وربما أنجبته تحت جذع شجرة نخيل، كما قرأت في سلسلة «قصص الأنبياء». بالمناسبة لدينا لوحة تطريز وهي من ثمار كدح وتعب الجدة أيضا، وتحمل صورة نخلة يخرج من أعلاها أربع أو خمس أوراق عريضة ومشرشرة، وتحتها مولود تغطيه الأقماط ويحيط برأسه الصغير دائرة من النور الذهبي. في وقت لاحق أخبرتني الوالدة أن جدي اختفى بتفجير سيارة ملغومة وهو في طريقه إلى المسجد ليصلي.
سألتها: وماذا يعني سيارة ملغومة؟
قالت: يعني بمممم.
وأردفت: هل فهمت؟
في آخر المطاف تبين أن العواء مزيف. ومصدره درويش أو متشرد يأوي في الليل إلى بستان «أبو زمر»، ويأمل أن يتحول بهذا النباح إلى ذئب.
وروت لي هذه التفاصيل ابنة «أبو زمر». وكانت خياطة، تعمل على ماكينة سنجر، وتخيط البيجامات لبنات المحلة. ولها وجه لم أشاهد مثله. ولو كان أصفر لشبهته بهيئة العذراء، لكنه أبيض بلون الحوار الكلسي، أو أحجار حلب الشهباء. وفي الليل يبرق ويلمع مثل قمر مكتمل.
سألتها: وهل يستطيع الإنسان أن يتحول إلى وحش؟
قالت: في هذا الزمان. نعم. كل شيء ممكن.
سألتها مجددا: وهل تحول الدرويش إلى ذئب؟.
أجابت وهي تنفجر بالضحك: إلا هذا المسكين. غلط وتحول إلى نعجة.
ثم ضغطت على دواسة آلة الخياطة فبدأت تزمجر وتهدر كالدبابات التي تناور أمام أبواب بيتنا، وتحفر أخاديد طويلة في الإسفلت.
كاتب سوري