البشرية والوباء والاشتراكية

نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» قبل أسبوع مقالاً لمعلّقها جنان غانيش تحت عنوان «رؤية ساندرز للعالم تفوز بينما يخسر بيرني». والقصد من هذا العنوان أنه في الوقت الذي بدا أن المرشّح اليساري بيرني ساندرز سوف يخسر معركة الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، فإن الأفكار الاشتراكية التي روّج لها ساندرز خلال حملته، وبحماسٍ كاد يعادل حماس القاعدة الشابّة بأغلبيتها التي أوصلته للمرة الثانية بعد أربع سنوات إلى حافة الفوز بالانتخابات التمهيدية، تلك الأفكار باتت في طريقها إلى التطبيق.
أما الأمر الذي حدا بمعلّق صحيفة الأعمال العريقة على إعلان فوز أفكار ساندرز، فهو بالطبع الأزمة العالمية الهائلة الناجمة عن انتشار وباء كوفيد ـ 19. ومن الطبيعي بالتالي، أن يتوقّع القرّاء أن المجال الذي بات فوز ساندرز الفكري يتحقّق فيه حسب المعلّق، إنما هو مجال سياسات الصحّة العامة. بيد أن ما اهتم به الكاتب في مقاله هو مجال السياسة الاقتصادية العامة إزاء أزمة تنذر بأن تتخطّى بحجمها كافة الأزمات التي عرفها تاريخ الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وقد أخذت تفرض على شتى الحكومات سياسات اقتصادية مناقضة للعقيدة النيوليبرالية السائدة منذ أربعة عقود. وسوف تكون لنا عودة إلى المسألة الاقتصادية العامة في مقال آخر، أما اليوم فنودّ التعليق على همّ الناس الأول، ألا وهو الهمّ الصحّي.
والحال أن الكارثة العالمية العظيمة التي نحن في صددها قد كشفت بصورة قاطعة كيف أن السياسات النيوليبرالية القاضية بتقليص خدمات القطاع العام، بما فيها الخدمات الصحّية، لصالح القطاع الخاص، سياسات تتعارض مع مصلحة البشرية جمعاء في أمر مصيري يتعلّق بالحياة والموت. وقد بلغ هذا التعارض أقصاه، بين بلدان الشمال العالمي، في الولايات المتحدة الأمريكية، بلد النيوليبرالية القصوى المتوحشّة وفي ظل رئاسة أبرز المتوحشّين دونالد ترامب، الذي جعل شغله الشاغل، منذ أن تسلّم دفّة الرئاسة، تفكيك الإنجازات بالغة الاعتدال والقصور التي أدخلها سلفه باراك أوباما في مجال الصحّة العامة.
ومن المعلوم أن حظوظ العلاج والشفاء في الولايات المتحدة تعتمد بالكامل على مرتبة الإنسان على سلّم الثراء والفقر، شأن أمريكا في ذلك شأن العديد من بلدان الجنوب العالمي، إلى حدٍ جعلَ أحد المغرّدين الأمريكيين يتهكّم فينصح الفقير، الذي لا قدرة لديه لتوفير ثمن فحص طبّي، بالسعال في وجه الثري وانتظار نتيجة الفحص الذي سوف يجريه هذا الأخير لا مُحال كي يعلم إن كان هو نفسه، أي الفقير، مصاباً أو سليماً.

الكارثة العالمية العظيمة التي نحن في صددها قد كشفت بصورة قاطعة كيف أن السياسات النيوليبرالية القاضية بتقليص خدمات القطاع العام، بما فيها الخدمات الصحّية، لصالح القطاع الخاص، سياسات تتعارض مع مصلحة البشرية جمعاء في أمر مصيري يتعلّق بالحياة والموت

ومن قبائح النمط الرأسمالي المتوحّش السائد في أمريكا أن حكمها حاول أن يشتري من أحد المختبرات الألمانية حقاً حصرياً في إنتاج تلقيح ضد فيروس كورونا يعمل المختبر على إعداده، الأمر الذي أحدث بالطبع استنكاراً عارماً في ألمانيا. كما أن الولايات (غير) المتحدة دخلت في مزادٍ على شراء المعدّات الطبّية الضرورية من الشركات المنتِجة بدل أن تفرض الحكومة الاتحادية على كافة الشركات العمل وفق الأولويات التي تفرضها المصلحة العامة في مكافحة انتشار الوباء، وبسعر ثابت محدود إذ لا يجوز أن يحقق بعض الرأسماليين أرباحاً مضاعفة من جرّاء مأساة وطنية وعالمية. وتقدّم المملكة المتحدة، موطن النيوليبرالية الرئيسي الآخر، نموذجاً مختلفاً عن النتائج الكارثية الناجمة عن السياسات المذكورة. فبعد أن تزوّدت بريطانيا إثر الحرب العالمية الثانية بأحد أفضل أنظمة الصحّة العامة المجّانية وذلك في ظل حكومة حزب العمّال، لمّا كان هذا الحزب يسارياً مثلما غدا من جديد بقيادة جيرمي كوربين، أخذت الحكومات المتعاقبة منذ ثلاثين عاماً، أي منذ أن وصلت إلى الحكم زعيمة المحافظين ورائدة النيوليبرالية مارغريت تاتشر، تقلّص ميزانية «هيئة الخدمات الصحّية الوطنية» (NHS)، وتحثّ الميسورين على التزوّد بضمان صحّي خاص. وبنتيجة ذلك باتت المستشفيات البريطانية بين الأقل قدرة على مواجهة الوباء في أوروبا بحيث يخشى المراقبون أن يتّخذ انتشار المرض في المملكة المتحدة في الأسابيع المقبلة حجماً مأساوياً يضاهي ما تشهده إيطاليا حالياً، إن لم يتعدّاه.
هذا ولو استطاع الأثرياء أن يعزلوا أنفسهم بالكامل عن الفقراء لما تردّدوا في النأي عن أنفسهم في قصورهم وانتظار انتهاء الكارثة بفضل العلم الطبّي، غير مبالين لعدد الضحايا بين الفقراء، بل وبسرور أناني من هلاك المرضى وكبار السنّ من الفقراء. لكنّ الأوبئة لا تتوقف عند الحواجز الطبقية، لسوء حظ الأثرياء، أللهّم إلّا لو كانت لديهم جنّة اصطناعية على مسكن فضائي كما في فيلم الخيال العلمي الأمريكي «إيليزيُم» (2013). كما أن وباء كوفيد-19 يؤثّر تأثيراً مباشراً وكبيراً على ثروة وأرباح الغالبية العظمى من الرأسماليين من خلال الأزمة الاقتصادية التي تسبّب بها والتي لا تني تتفاقم.
وقد بيّنت كارثة الوباء الجديد عقم ما سمّاه كارل ماركس «مياه الحساب الأناني المجلّدة» من خلال إثباتها بصورة درامية أن البشر أجمعين تربطهم في نهاية المطاف وحدة مصير، مثلما بيّنت قبلها، ولا زالت تبيّن يوماً بعد يوم، الكارثة البيئوية العظمى التي يواجهها كوكبنا. تذكّرنا هاتان الأزمتان وغيرهما أننا جميعاً ركّابُ هذا «المسكن الفضائي» الطبيعي الذي نسمّيه «الأرض»، لا مسكن لنا غيره، ولا سبيل أمامنا إلى وقف تحوّله إلى جحيم سوى بتعاضد البشر في إيجاد حلول جماعية لمشاكلهم وطرق جماعية لصيانة كوكبهم.
هذه السياسة التكافلية أدرك ضرورتها بعض مفكّري العصر الصناعي منذ بزوغه في القرن التاسع عشر، وقد أطلقوا عليها اسم «الاشتراكية». ولا زال هذا الاسم سارياً لا بديل عنه، مثلما نرى في الولايات المتحدة ذاتها، حيث أعاد له الاعتبار بيرني ساندرز بعد أن أساء إليه أيما إساءة أولئك الذين استخدموه غطاءً لشتى أنواع الاستبداد التي تقع على طرف نقيض من الاشتراكية، مثلما تقع ممارسات العديد من المتذرّعين بالدين على طرف نقيض من الدين الحنيف الذي طالما دعا إلى الرحمة والتكافل الاجتماعي.

كاتب وأكاديمي من لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري على أرض الواقع أي عبقرية في سياق زمني ومكاني ما، يلخصه عنوان مثل عنوان (البشرية والوباء والاشتراكية) الذي نشره جلبير الأشقر في جريدة القدس العربي، والأهم هو لماذا رغم اختلافي مع كل ما ورد في تأويل الكاتب تحت العنوان؟!

    لأن الإقتصاد أي إقتصاد أساسه الإنتاج، لمنتجات يحتاج لها أي سوق،

    حتى يحضر له أي إنسان وأسرة وشركة مُنتجة للمُنتجات الإنسانية لعرض وطلب أي شيء فيه،

    الذكاء في أي إدارة وحوكمة، هي في استقطاب أكبر عدد لتكوين مجتمعات، وقرى، ومدن، ودول حول هذا السوق، خصوصاً في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني)، مثل سوق فلسفة أمريكا (أمازون)، أو سوق حكمة الصين (علي بابا)،

    فرض الرسوم والضرائب والجمارك بلا منطق ولا موضوعية ولا خدمات بالمقابل، تجعل حتى الممثل الفرنسي أن يتنازل عن الجنسية الفرنسية،

    ويستغل ذلك الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)، من أجل ضرب الإتحاد الأوربي،

    والغرب الرأس مالي بشكل عام، من أجل استرجاع كرامة الروسي التي ضاعت مع ضياع المعسكر الشيوعي عام 1991،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    عندما عرض منصب وزير الثقافة، للممثل الفرنسي، عند تسليمه الجواز الروسي بنفسه له، كما في الرابط

    https://youtu.be/GdywX-ZH1QQ

    لأن السرقة، هو عقلية فرض أي ضريبة أو رسوم أو جمارك بلا خدمة مقابل ذلك، من الدولة،

    وفي المقابل تحترم الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في أي دولة،

    ولذلك على أي أساس يا عبقري، اعتبرت المقايضة بعد 2008 في (إتفاقية النفط مقابل إعادة الإعمار) مع الصين أو تايوان أو أي دولة للتخلص من الفساد والرشوة والمحسوبية والواسطة،

    عند تنفيذ أي مقاولة/وظيفة تطرحها أي حكومة ورقية أو رقمية (إليكترونية) بعد 2020، سرقة لمنتجات الطاقة، أصلاً؟!??
    ??????

  3. يقول حيدر اتاسي:

    كما هى العاده من مقالات السيد جلبير الاشقر مقال موضوعى وحكيم. احب ان اضيف سوال : هل من طريق اخر لاالرسمايه سوى هذا الذي يودي الي الجشع والتفارق الطبقي العميق ؟

  4. يقول حيدر اتاسى:

    احب ان اعلق على نقطه واحده : انتشار الكورونا لم تويد افكار ساندرز “الاشثراكيهِ. لان افكاره المطبقه فى ايطاليا لم تمنع الكورونا من الانشار ِ السرىع في تلك البلد

  5. يقول محسن عون/تونس:

    سلمتَ و سلِم القلمُ. شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية