مقابل «عروبية» الناصريّة التي بدت أقرب إلى ترتيب جغرافي سياسي موصول بنفوذ مصر ودورها كانت العروبية السورية، حسب حازم صاغية في كتابه «البعث السوري»، ضالعة في التغني بأصول العرب الخرافية بحيث «بدت عروبة مصر للبعثيين أقرب إلى النثر، فيما عروبتهم هم شعر خالص».
وفي وصفه للمجموعة التي بدأت الحزب، يقول سامي الجندي في كتابه «البعث»: «كانت طليعته كتابا وأدباء حتى ليظن المراقب الدقيق أننا كنا ننظم شعرا»، ولا يبتعد تقييم سامي الجندي في كتابه عن «البعث» لزكي الأرسوزي، الذي يعتبر أحد آباء هذه «العروبية السورية»، عن هذا الوصف.
يتذكر الجندي رسالة من جماعة الأرسوزي عام 1939 تعتبره منتسبا مؤسسا في «الحزب القومي العربي» وتشرح مبادئه على الشكل التالي: «العرب أمة واحدة. للعرب زعيم واحد يتجلى عن إمكانيات الأمة العربية. العروبة: وجداننا القومي، مصدر المقدسات. العربي سيّد القدر.» (إضافة إلى أن رمز الحزب هو النمر!)، وقامت الجماعة نفسها بتأسيس حزب آخر عام 1940 باسم «البعث العربي»، وفي 1946 انضم الجندي إلى تنظيم عفلق والبيطار المسمى أيضا «البعث العربي».
وفي شرحه المعجب به يؤكد الجندي أن الأرسوزي أعطى الزعامة معنى صوفيا «متأثرا بنشأته العلوية»، وأن الزعيم الواحد الذي يجمع فضائل الأمة هو «صورة علمانية حديثة لإمام الزمان»، وبعد هذه «تقمصات» هذه الصور الدينية للشعارات السياسية المحدثة يفاجئنا الجندي بالقول: «اتهمنا بالإلحاد وكان ذلك صحيحا أيضا رغم كل ما زعم البعثيون فيما بعد من مزاعم التبرير» (يقول لاحقا إنهم كانوا متدينين صوفيين كأفراد لكنهم «ضد دين الآخرين»).
إضافة إلى هذا الفكرة المثيرة يربط الجندي «البعث» بوضوح وصراحة بالنازية قائلا: «كنا عرقيين معجبين بالنازية نقرأ كتبها ومنابع فكرها (…) وكنا أول من فكر بترجمة (كفاحي)» (كتاب أدولف هتلر الشهير).
إضافة إلى فكرة الزعيم الأوحد (إمام الزمان)، والنازية، والإلحاد (ضد دين «الآخرين»!)، فإن الأرسوزي كان يعتبر الجاهليّة ما قبل ظهور الإسلام هي الفترة الذهبية للأمة العربية، وإذا كان هذا التصوّر يؤكّد الطابع الشعري والخرافي لأفكار الأرسوزي (فكيف يمكن تصوّر أمّة عربية من دون الحقبة الإسلامية التي جمعت العرب؟)، فإنه يؤكّد أيضا كرها للإسلام بشكل ينافي المبادئ القومية، وهو أمر حاول ميشيل عفلق لاحقا أن يعالجه باعتبار «الإسلام معجزة العروبة» لكن اعتباره محمدا «بطل العرب»، بدا للبيئة الإسلامية «أقرب إلى كسر رتبة منها إلى إعلاء شأن».
اقترح سامي الجندي على صلاح جديد معالجة الطائفية بنشر الكتب السرية للعلويين فرد عليه: «لو فعلنا لسحقنا المشايخ»
يشير الجندي إلى التشابهات المدهشة بين أفكار الأرسوزي، وأفكار ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، اللذين أعلنا تأسيس حزب بالاسم نفسه (البعث العربي) عام 1947، إلى درجة أن الأرسوزي ظن ما يقوم به عفلق والبيطار «من دسائس الاستعمار»، وقد تولّدت عداوة لاحقة بين الأرسوزي وخصميه بحيث كان يقول عن عفلق أن «الأدب خسره وابتلت به السياسة».
ورغم انفضاض التنظيم الذي أسسه الأرسوزي عنه، يؤكد الجندي أن شخصيته ظلت موجودة في حزب «البعث» متمثلة في «نزقه، أمثلته، صور سخره الشاعرة»، أما عفلق «فقد منح الحزب كثيرا من رومانتيكيته الضرورية لكل بدء».
يشير الكاتب أيضا إلى أن في سلوك عفلق «طيب الفنان وعصبيته وقرفه وسوء ظنه»، وأن في «طبيعة الفنان عزوف عن الواقع، رحيل إلى أرض لا وجود لها (…) هي عالم مثله»، كما أشار إلى كتابة عفلق لقصص قصيرة «بارعة ثرّة البيان»، وإلى أن قصيدته «عصفي يا رياح» هي «من روائع الشعر العربي تنبض بالصوفية والألوان، تنبئ لي أن طموح الشاعر بعيد عن القوافي والأوزان»، وفي تعليقه على رسالة «البعث» التي كتبها ميشيل عفلق إلى عبد الناصر عام 1958 يقول: «عاد البعثيون إلى طبيعتهم: شعراء صوفيون ظنوا زمنا أنهم سياسيون»، وفي لقائه الأول عنه يقول إنه كان يتصوّره متكلما وواعظا فوجده صامتا لا يتدخل في الأسئلة والأجوبة «إلا حين تطرقت للصوفية في شعر الطوائف الباطنية».
يشير الجندي أيضا إلى تجاهل الحزب لدمشق وأهلها وأن الأمر تحول إلى كره وجدار عال معها، كما يشير إلى اهتمام الحزب بزرع عسكريين في الجيش وباجتذابهم إليه وأنه منذ بدء 1949 أخذ «يمهّد لانقلاب عسكري»، وفي حديث لاحق عن صلاح جديد اقترح عليه معالجة الطائفية بنشر الكتب السرية للعلويين فرد عليه: «لو فعلنا لسحقنا المشايخ».
وفي حين يؤكد الجندي دور صلاح جديد الكبير في توظيف الطائفية ضمن الجيش والحزب، فإن منيف الرزاز، في كتابه «التجربة المرّة» يقدّم أمثلة على أن زميلي جديد في «اللجنة العسكرية»، محمد عمران وحافظ الأسد، كانا يتصرفان بالطريقة نفسها، وضمن «التكتيل الطائفي» الذي استخدم في الصراع على السلطة وأبعد ميشيل عفلق وصلاح البيطار تمت استعادة زكي الأرسوزي للاستخدام كأب للبعث وليقوم بمحاضرات في الثكنات والمواقع العسكرية (وهو الذي قال حين دُعي للانتساب للحزب الذي أسسه عفلق والبيطار: «انا لا أنتسب لحزب يحمل جنازته بيده»!).
يلاحق حازم صاغية تكرّس الطابع الطائفي (والمافيوي) للنظام فيرى أن تصفية «الشركاء» في انقلاب 1963 من القوميين والمستقلين، بدا تصفية للنفوذ الدرزي في الجيش والمنظمات الحزبية المدنية، أما الصراع بين الأسد وجديد، فـ«كاد يتطابق مع تصفية الضباط البعثيين الاسماعيليين»، وهو يرى أن هذا الطابع الطائفي «لم يفد منه إطلاقا العلويون السورين ممن شاطروا باقي السكان فقرهم» لكن ذلك لم يحل دون تركز السلطات الفعلية في أيدي عدد من الضباط العلويين، أما الحديث عن «مركب سلطوي عابر للطوائف»، فيراه قفزا على واقع أن «الضباط ظلوا الطرف المقرر» و»الذي يستطيع أن يسحب التفويض حين يشاء».
عبّرت بدايات مؤسسي الحزب عن تأثّر بالاتجاه النازيّ سياسيا، وبالرومانطيقية أدبيّا، وبالباطنية الصوفيّة والطائفية مذهبيا ودينيا.
تتفق الكتب الثلاثة على تحميل البعث ونظامه مسؤولية كوارث رهيبة وقعت في المشرق العربيّ، واثنان من الكتاب، الرزاز والجندي، كانا من ضحاياه، حيث أبعد الأول عن دمشق بعد أن كان الأمين العام للحزب، وتوفّي في بغداد تحت الإقامة الجبرية عام 1984 وقيل إنه مات مسموما، فيما نُفي الثاني وعاد إلى بلاده كهلا.
لم يشهد كاتبا «التجربة المرة» و»البعث» اكتمال مسلسل الدم الرهيب في سوريا والعراق، ورغم تلمس كتابيهما لبعض الإشكاليات فإنهما لم يستطيعا، لأسباب أيديولوجية أو غيرها، فهم الصيرورة البعثية واكتمال حلقاتها وصولا إلى الوضع الحالي في سوريا والعراق.
٭ ٭ ٭
عبّرت بدايات مؤسسي الحزب عن تأثّر بالاتجاه النازيّ سياسيا، وبالرومانطيقية أدبيّا، وبالباطنية الصوفيّة والطائفية مذهبيا ودينيا.
وعلى عكس ما يرى الرزاز والجندي فإن بدايات البعث ترتبط بنهاياته، فالجذور النازية تفسر الترحيب بالانقلابات العسكرية، كما تفسر الوحشية الأمنية التي مورست منذ اللحظات الأولى لانقلاب 1963، أما الجذور الطائفية فـ«تطور» فكرة الابادة النازية لعروق أخرى بحيث يقوم أحفاد البعث، الذين هم حزب ـ عرق ـ طائفة باستخدامها ضد الشعب الذي يحكمونه باعتباره من حزب وعرق وطائفة أخرى.
لقد تمت تبيئة العرقيّة النازية في سوريا وتم تحويلها عبر «البعث» (و»الحزب القومي السوري») إلى منهجية سياسية (وثقافية كما سنكتشف لاحقا) صار فيها الحزب جهازا أمنيا مولجا بالتغطية السياسية على عائلة حاكمة ومركّب طائفي (عرقي)، ومع الاحتلالين الإيراني والروسي، تموّهت الحاجة الأيديولوجية للبعث مع تهجينها بأيديولوجية الإمامية الإيرانية (والتي فيها أيضا ركائز عرقية غير خافية)، وأيديولوجية الاستبداد السلافي الروسي.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
فقد كان في العراق قيادة قومية على راسها عفلق والعيسمي والرزاز وكانوا سيتباون مناصب قيادية سواءا في الحزب اوالدولة الجديدة لو كانت سترى النور ويكون البكر او الاسد احدهما رئيسا والاخر نائب للرئيس وبالتالي سيكون حلم صدام حسين بالسلطة قد تبخر فلذلك سارع لتنحية البكر عبر اجباره على الاستقالة وقام عام 1997 بتصفية كل قيادات الحزب التي لا يثق بها بتهمة الخيانة والتامر مع البعث السوري وتم تجميعهم بقاعة الخلد واعتقالهم وباقي تاريخ العراق معروف بعد استلام صدام واخوته وعشيرته كليا للعراق
شكرا اخي سلام عادل على تعليقك الموسع. اتفق معك على اختلاف المسارين بين بعثي سوريا والعراق ولكن هناك تشابها كبيرا في أن كلا المسارين أديا إلى دمار البلدين
البعث والعروبية هما صناعة علوية ومسيحية كان المستهدف هو المسلمون العرب وهويتم السنية وثقافتهم الإجتماعية في سوريا ويكفي أن ننظر إلى ما يحدث اليوم في سوريا لتأكيد ذلك٠
اتفق مع الأخ عمر وازيد وكذلك الصوفية الأرثوذكسية ونصرتها وتسليحها من قبل الروس وقيصرهممقابل التنازلعن أراض إسلامية مثل الشيشان ومقاطعات من تركمانستان وغيرها بغية فتح جبهة شرقية وفك الحصار عن شرق وسط أوروبا من قبل سلاطين ال عثمان. لله در محمد الفاتح. والى يومنا هذا الحلف باق معياران اليوم في سوريا الدفاعالمستميت عن طائفة أو طوائفبعينها.
المقالة ممتعة جداً، و تجمع الكثير في تلخيص شديد التركيز. حبذا لو توسع الأستاذ محمد فيها و كتبها في أجزاء.
الأستاذ حازم صاغية عالم في البعث السوري، أما سامي الجندي (سمعولي) فهو أنظف البعثيين على وساختهم. تمسُّك الأرسوزي (علوي لوائي) و رفيق دربه وهيب الغانم (علوي لوائي) بالعروبة كانت لحاجتهم إلى «هوية أو انتماء» حرمهم منها الكماليين في تركيا اللذين منعوا مواطنة العلويين، و لذلك بدت العروبة الخيار الأسهل. و لأن «طبقية و فاشية» الحزب القومي السوري كانت كانت حاجزاً أمامهم، بدا البعث الرهان الأسهل لهم.
إعتبار الأرسوزي بأن الجاهلية هي الفترة الذهبية للأمة العربية سببه عداء العلويين للإسلام و محاولة بعضهم بأن المذهب العلوي يعود إلى ألاف السنين، لا يصدقه الا ساذجين. خلاف الأرسوزي مع صلاح البيطار و ميشيل العفلق سببه بأن الأرسوزي كان يتوهم بأنهما يسرقان أفكاره. البيطار كان مثقفاً، و لذلك منعته ثقافته من ان يكون «شعبوياً»، أم العفلق فكان شارد الفكر و لذلك تبدو كتاباته مزيجاً من الرومانسية و اللاواقعية «فابتلت به السياسة و لكن لم يخسره الأدب» إطلاقاً!
الأفكار ، كالبذور ، تشتاق لتربتها…و تموت في غيرها
أما الدغل ، فينبت …بلا فائدة
و سيأتي بعد حين ،من يحكم على ما يفعل الآن من حلّ محلّ من غادر ……لا أعتقد أنهم خيراً
موقف حافظ الأسد من الحرب العراقية الإيرانية له علاقة بالطائفية و ليس الأخلاق
I would like to thank Alquds Alarabi on this deep insight of the Baath /Syrian history. It is a very .intriguing analysis of a period that needs a lot of studying
هل يشرح لنا الكاتب المحترم ما هو المقصود بأيديولوجية الإمامية الإيرانية… وما هي أيديولوجية الاستبداد السلافي الروسي؟
{ عبّرت بدايات مؤسسي الحزب عن تأثّر بالاتجاه النازيّ سياسيا، وبالرومانطيقية أدبيّا، وبالباطنية الصوفيّة والطائفية مذهبيا ودينيا }.
ما هي مصادر هذا الاستنتاج ؟ مع التقدير.