من الجدليات العويصة والعميقة المفهوم، التي قد يقحم فيها البشر أنفسهم، محاولة فهم طبيعة العلاقة بين الأخلاق والإنسانية؛ فالجميع يبرر اختيارته، وكثير من البشر قد يطوعون مفاهيم إنسانية معروفة، ثم يصوغونها في قالب أخلاقي ملتو يتناسب مع أهوائهم الشخصية، على الرغم من أنها تضرب بجميع المنظومات الأخلاقية عرض الحائط. وعلى مدار كل العصور، من يستطيع التوفيق بين المفاهيم الأخلاقية، والحق والإنسانية، ومن له القدرة على إحداث توازن في ما بينهم، هذا ليس بإنسان عادي؛ فهو أكثر من إنسان، إنه «سوبرمان».
فمفهوم السوبرمان ليس بالجديد النشأة على الإطلاق، حيث ظهر في عام 1883 على يد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844- 1900) الذي كانت لجميع كتاباته عظيم الأثر في تشكيل الفكر الحديث، ولا يزال تأثيرها مستمراً ومصدر إلهام للمفكرين على اختلاف هوياتهم الثقافية. فقد كان الهم الأعظم للفيلسوف فريدريك نيتشه هو سبر أغوار الفكر السائد، لربطه بجدوى وجود المرء على وجه الأرض. وقد طرح نيتشة مفهوم السوبرمان هذا في كتابه «هكذا تحدث زرادشت» الذي يناقش فكرة «الفوق إنسان»، وهي ترجمة حرفية للمصطلح الألماني Übermensch ، التي قد يجنح البعض لترجمتها الإنسان الأعلى، أو الإنسان المتفوق، أو الإنسان الخارق، والتي أيضاً تم تحريفها لمصطلح «سوبرمان»؛ كمحاولة لبلوغ معنى المصطلح بالألمانية.
ومن الجدير بالذكر أن نيتشه لا يعني بفكرة «السوبرمان» وجود إنسان ذي قوى خارقة للطبيعة ـ مع العلم أن أفلام السوبرمان استمدت فكرتها من مفهوم نيتشه- لكنه يعنى انبلاج المستقبل عن فرد خارق بمقدوره تحقيق ما لم يستطع أحد تحقيقه، ألا وهو الارتقاء بعيداً عن منظومة الأفكار السائدة، وإحلالها بمنظومة أخرى أصيلة خاصة به، بحيث تتميز بالرقي والسمو.
وبعيداً عن الجدليات الدائرة حول هذا المفهوم، فأهم ما كان يميز نيتشه تمجيده لحياة الإنسان وأهميتها، ومحاولاته الدائمة حث الفرد على العمل، والتمسك بتمييزه، وإيجاد معنى لتواجده، بدون الالتفات لآراء الآخرين. وكان أيضاً يحث الفرد على تحطيم سجن الأوهام الزائفة التي تلف حياته. فالعيش وفقاً للمنظومة الأخلاقية المميزة للفرد تمنحه إحساسا عميقا بجدوى أفكاره ومفاهيمه، وتساعده على ألا ينفصم عنها. وفي ظل هذا، يعكف السوبرمان على تحقيق هدف واحد فقط: تحقيق تقدم البشرية وتحسينها. مع ملاحظة أنه يعي المعاناة التي يتكبدها المرء من جراء الحياة على وجه البسيطة. وعلى غير المألوف، ذلك الإنسان الخارق الذي أضحى «سوبرمان» يتفانى لبلوغ هدفه، لدرجة أنه على أتم استعداد لأن يضحي بنفسه وحياته من أجل ذلك، وبمرور الوقت، يجد أنصار ومريدي الخروج بعيداً عن الأطر الأخلاقية المفروضة عليهم من قبل المجتمع، ومن ثم يصير كل منهم شخصية ذات تأثير فعال ومؤثر على مجرى التاريخ.
أهم ما كان يميز نيتشه تمجيده لحياة الإنسان وأهميتها، ومحاولاته الدائمة حث الفرد على العمل، والتمسك بتمييزه، وإيجاد معنى لتواجده، بدون الالتفات لآراء الآخرين.
ويعج التاريخ الإنساني على مرّ العصور بالعديد والعديد من هؤلاء البشر من صنف السوبرمان، الذين اقتحموا مجالات العلوم والفنون، وكذلك التكنولوجيا، وبرز تمييزهم من دفاعهم المستميت عن منظومة الأخلاق والأفكار التي يبشرون بها، على الرغم مما يتكبدونه من أهوال بسبب تمسكهم بمفاهيمهم. ومن أهم النماذج الأدبية التي سلكت طريق «السوبرمان» كان الروائي والقاص البوهيمي (حالياً التشيكي) فرانتز كافكا (1883-1924). ويعد فرانتز كافكا واحداً من أهم وأبرز الأدباء والمفكرين في القرن العشرين؛ فكل من يتناول أعماله بالقراءة، أو بالنقد، أو التحليل تنتفخ أوداجه حبوراً، ويتفاخر كل من يذكر اسمه أو يقحمه في أحاديثه؛ لأنه بذلك يعطي دليلاً دامغاً على شدة ثقافته، وعلى عمقه الفكري والإنساني. فأعمال فرانتز كافكا هي مزيج عجيب غير مألوف، وغير متوقع من الواقعية السوداء والفانتازيا. فأبطال جميع أعماله شخصيات ذات صفات وخصائص ليس فقط من الصعب تواجدها في شخص واحد، لكن، أيضاً، من العجيب وجودها في هذا الكون؛ لشدة غرابتها التي تصفع القارئ بفكرة عميقة جديدة، تجعله يكتشف جانباً في حياته لم يكن يعلمه من قبل. ولتمييز أبطاله نجدهم مستوحدين، والأدهى من ذلك، يجابهون أزمات غريبة وسيريالية، ويقفون وجهاً لوجه مع قوى اجتماعية بيروقراطية المنطق والمفاهيم. علماً أن تلك القوى هي أيضاً غير مفهومة. وعندما نتناول بالتحليل أعمال فرانتز كافكا، نجد أنها تعالج زمرة من الثيمات التي لا تتغير وتتكرر في جميع أعماله، وهي الاغتراب والقلق الوجودي النزعة، والشعور بالذنب والتفاهة. على الرغم من التكرار، فإن كل عمل جديد، وحديث الفكرة والمنطق، وغير مألوف. فلقد استطاع كافكا بعبقرية فذه أن يخلق من التكرار كل ما هو جديد، لدرجة أن عمق أفكاره وتناوله للموضوعات حث اللغويين على استحداث مصطلح «الكافكية» لوصف مواقف شاذة عن المألوف، ولا يعقلها المنطق.
وبدون شك، إذا استطاع مؤلف روائي وقاص أن يرقى بكتابته الأدبية إلى التنظير والفلسفة فإن ذلك دليل على شخصه المتميز. فعلى مدار حياته القصيرة التي امتدت فقط إلى الواحد والأربعين عاماً، عانى كافكا بسبب تمسكه الشديد بحلمه في أن يصير أديباً، لدرجة أنه استقال من وظيفته المكتبية في إحدى شركات التأمين، والتي كانت توفر له قوت يومه؛ لأنها تلهيه عن الكتابة. فكان كافكا يكتب لأيام متواصلة، ويحاول أن ينشر كتاباته ومقالاته، لكنها لم تكن تجد أي صدى، ولم تحقق أي نجاح. فقد كان كافكا يزهد في الحياة، ويزهد حتى الطعام حتى أصابه مرض السل ومات على إثره. فلقد تمسك بحلمه قدر المستطاع، ولم يأبه بتخلي الجميع عنه، وسخريتهم منه، عدا صديقه الحميم. كان كافكا يكتب ليشبع ملكته الفنية، ومنظومته قيمه، ولم يسع يوماً للشهرة وجني الأموال. أما وهو على فراش الموت، فقد أوصى صديقه الحميم بحرق جميع كتاباته، لكن صديقه خالف الوصية، وعندما نشر إحدى قصصه القصيرة، حققت نجاحاً مبهراً جعلت من الراحل كافكا «سوبرمان» سرمديا، على الرغم من أنه أرضى نفسه واكتفى بكونه «سوبرمان» لا يعرفه أحد؛ فمعرفته بما يحمله بين ضلوعه من قدرات تكفيه.
وهنا، نجد أن «مبدأ» السوبرمان» الذي عبر عنه نيتشه حقاً موجود، لكن يجب أن لا يظن أي فرد استحدث منهاجا أخلاقيا أو فكريا جديدا أنه قد صار «سوبرمان»، ومبعوثا لتنوير البشرية، وإلا صارت الغوغائية هي المآل. فكم من فاسد قد استحدث منظومات مفسدة، أو لصوصية له أنصار ومريدون في كل مكان، لكن عندما يطويه التراب، لن يبقى إلا الفساد ليلعنه الجميع.
المفسدون جعلوا من بسط الهيمنة، والحياة الهم الأعظم. وعلى النقيض، لا يسعى أي «سوبرمان» حقيقي إلى الهيمنة، أو بسط نفوذه، فحسبه أنه قد جعل – قبل أي شيء – حياته ذات قيمة أمام نفسه، وجعل من رحلته على وجه الأرض مغامرة ممتعة، حتى لو كانت كلها مآسي.
٭ كاتبة من مصر
بداية لعنوان غريب (البعض يولد سوبرمان) وبعد بربطه بفكر (نيتشه الألماني) بواسطة الكاتبة المصرية (د نعيمة عبدالجواد) فهمت تقصد (القدوة)،
إشكالية الإشكاليات ونحن في عصر الجيل الرابع من الثورة الصناعية (الألمانية/الأوربية) والتي حول الآلة تم بناء اقتصاد دولة الحداثة (للإنسان السوبرمان)، وهذا أدى إلى إشكالية في مفهوم قدوة مناهج التعليم/التكوين/التدريب المهني للإنسان،
هل يكون آلة (سوبرمان) أم إنسان (سوبرمان) ليصل أسرع إلى مفهوم (المال أولاً) في تمويل مشاريع الدولة؟!
في دول ما بين دجلة والنيل، مهد الحضارة الإنسانية، لا يمكن تجاوز مفهوم القدوة شخصية (موسى، وعيسى، ومحمد، أولاً وبقية الأنبياء بعد ذلك بداية من ابراهيم وحتى آدم) وهناك إشكالية أين مكانة (حواء) إذن، بالنسبة للعقلية الأوربية بالذات التي أساس تفكيرها الفرد،
عكس أهل ما بين دجلة والنيل التي أساس تفكيرها الأسرة/الشركة التي تم تدوين عقد التسجيل رسمياً لحفظ حقوق كل الأطراف،
اختلاف الأسس تؤدي إلى اختلاف وسائل البناء بالتأكيد،
خلط الحابل بالنابل، عمل على إنشاء ضبابية لغوية حتى في مفهوم القدوة.
العولمة (بعد 1945) فرضت مفاهيم أمريكية تختلف عن المفاهيم الأوربية بخصوص الأسرة/الشركة ومفاهيم المواطن الصالح (القدوة)،
فشل الإنقلاب للآلة العسكرية والأمنية في تركيا، بواسطة الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة كتطبيق عملي لمفهوم الأسرة الإنسانية في أجواء العولمة يوم 15/7/2016 وفي نهاية العام نتائج استفتاء بريطانيا ونتائج انتخابات أمريكا بفوز دلوعة أمه (دونالد ترامب)،
قلبت الطاولة على كل مفاهيم السوبرمان (الآلة)، لصالح الإنسان، ولذلك نحتاج تغيير مناهج التعليم/التكوين/التدريب المهني،
خصوصاً بعد ما حصل في هونغ كونغ يوم 1/7/2019 لتكوين إنسان يستطيع الفوز على الآلة (الروبوت) في المنافسة على كرسي وظيفة حوكمة الحكومة الإليكتروني لتكون بمشاعر وأحاسيس إنسانية.??
??????
وكذلك هناك نساء ( سوبروومن ) : الزوجة التي تربيّ أطفالها على الخير والشرف : سوبروومن ؛ والإعلامية التي تقتحم لجّة الحقيقة سوبروومن ؛ والعالمة التي تكتشف الجديد المفيد سوبروومن ؛ والطبيبة التي تعالج بإخلاص المرضى سوبروومن ؛ والطالبة التي تسعى للتفوق سوبروومن ؛ والكاتبة التي تخلص لمبدأ القلم سوبروومن ؛ وأمي وأمك وأمهات الآخرين الطيبيين ؛ اللواتي أنجبنّ الأبناء الأحراروالبنات الطاهرات سوبروومن.
مفهوم الـ«فوق-إنسان» Übermensch، بحسب أفكار نيتشه شيء،ومفهوم السوبرمان بحسب أفلام هوليوود شيء آخر.. المفهوم التفوقي السوبرماني بحسب أفلام هوليوود مفهوم «إنسانوي» مفتعل لا يوجد إلا في الخيال السينمائي،بينما المفهوم الفوقي الأوبرمنشي بحسب أفكار نيتشه مفهوم إنساني غير مفتعل وغير عادي، لا بل أكثر إنسانية من «إنسانية» الإله نفسه.. مفهوم إنساني محض غير موجود في الواقع الفعلي، لكنه ليس مستحيل الوجود في هذا الواقع.. فنحن دائما ودائما بانتظاره، كما عبر عنه صامويل بيكيت في مسرحيته /في انتظار غودو/، أو كما عبر عنه ناظم حكمت في قصيدته /أجمل القصائد هي التي لم تكتب بعد/.. !!
مقال أكثر من رائع لأنه من ناحية يجعل الإنسان أكثر ثقة بنفسه، ومن ناحية أخرى يجعل الفرد على دراية بمقدار ما عنده من قدرات. أجمل حاجة في المقال أنه بيؤكد أن المبدع الحقيقي لا يعلم أنه مبدع لكن يعرفه الناس بأنه مبدع. على عكس الشائع أن أي فرد يروج إشاعات لنفسه بأنه متمييز. حقيقي لقد لامست د. نعيمة عبد الجواد مشكورة ظاهرة تمس الواقع الحالي، وتحاول أن تكشف ما نجده من زيف في نفسنا وفي الآخرين. أشكرك على مقالاتك التنويرية، وياريت ماتغبيش كتير عنا.
الموضوع مع أنه يبدو سهل لكن فلسفي. أنا قرأته مرتين وفي كل مرة أكتشف جوانب جديدة. ربط الفلسفة بالواقع شئ جميل لأننا دايما بنشوف إن الفلسفة دي شئ خيالي وبعيد عن المجتمع. وأما عن مفهوم السوبرمان فكل منا سوبرمان بقدر لكن السوبرمان المطلق شئ صعب جدا