البكاء بعيدا عن الأمازون…

حجم الخط
19

ندَبت المراهقة السويدية غريثا ثونبرج، الناشطة في مجال البيئة، سوء المصير الذي ينتظر أجيال البشر القادمين من ظهر الغيب، صرخت في وجه العالم صرخة جديدة من نوعها، لم تتحدث عن معاناة شعب أو طائفة بعينها كما تعودنا على مثل هذه المنابر، بل عن الكارثة البيئية الكونية، وركّزت الكاميرات على ملامحها الغاضبة، عندما دخل الرئيس الأمريكي ترامب، فبدت وكأن لها ثأراً شخصياً معه، وتكاد تحرقه بنظرتها.
أظن أن كثيرين في هذا العالم الواسع بكوا أو يبكون على الغابات المحترقة في الأمازون، وهناك من يتحسّر على جبال الجليد التي تذوب، ويقلقه ارتفاع منسوب مياه المحيطات، ويأسف على الأحياء التي قد تنقرض.
لم أتأثر شخصياً، ولم أحزن، أدرك أن هذه أنانية كبيرة مني، فبعد أن أخذتُ نصيبي من الكرة الأرضية أنا وأبناء جيلي، يُفترض أن نكون نبلاء، وأن نغادرها مثلما نغادر حديقة صالحة للاستعمال وفي حالة جيدة للقادمين من بعدنا، على الأقل كي يقولوا، كان أجدادنا طيبين، فقد تركوا كرة مُرتّبة ونظيفة وخالية من النفايات الخطرة والغازات السامة، ومعقّمة من جراثيم الأمراض الفتّاكة.
المراهقة السويدية غريتا، التي باتت نجمة لدفاعها عن البيئة، مثّلت الموضوع تمثيلاً مسرحياً، وبلا شك أنها تدرّبت على الإلقاء وقتاً طويلاً، وأجزم أنه سيكون لها مستقبل رائع في التمثيل، وقد تكون بالفعل نجمة مسرحية محلية في مدرستها أو بلدتها، وسوف يصطادها مخرج مسرحي أو سينمائي كي تمثّل دوراً في فيلم ما، ومن المرجّح أن تظهر صورتها بعد عشرة أعوام وقد كتبوا عليها: «السويدية غريتا، المحاربة لأجل البيئة مرشحة للأوسكار كأفضل ممثلة».
إنها موهوبة، ولهذا أميل إلى القول إن ما رأيناه من حزن على ملامحها ليس حقيقياً، لأن مشاعر المراهِقة تجاه نفسها وذويها وأصدقائها وجيرانها وزملائها ومعلميها غير ناضجة أصلاً، فما بالك بمشاعرها تجاه الكرة الأرضية التي يعيش فيها مليارات المليارات من الأحياء.
لاحظت هذه المشاعر التمثيلية عند بعض الأطفال الفلسطينيين، حتى صارت في حقبة ما صرعة فلسطينية، أطفال يدرّبهم ذووهم ممن يعملون عادة في سلك التدريس، على إلقاء شعر الحماسة والحنين والغضب والعودة، وتمثيله بحركات اليدين وتبديل الملامح، فتراهم يتفجّعون حتى الدموع، وينجحون باستدرار عطف المستمعين والمشاهدين، ولكن ما إن يسمعوا التصفيق الحار حتى يبتسموا، وتنفضح تمثيلية المشاعر الجياشة، رغم ما فيها من جمال وخبث أحياناً، لكن يستفزني تحميل مشاعر طفل أكثر مما تحتمل، ويشدّني أكثر إتقان الطفل للّغة وقدرته الفائقة على الاستظهار، كنت أفضّل أن أرى عجوزاً آفلاً يبكي على الكرة الأرضية، كي يشعرني بأن ألمه حقيقي.
الطفولة والمراهقة لا تستوعبان الألم الحقيقي، قد يتفجع الطفل على درّاجة يرفض ذووه اقتناءها له أكثر من تفجّعه على كارثة سقوط طائرة فوق المحيط بركابها الثلاثمئة مع طاقمها.
مشاعر الطفل والمراهق لا تستوعب كثيراً، فعلٌ بسيط قد يمزّق ويدمّر أو يشوّه مشاعره ونفسيته، ولكنه لا يستوعب الكوارث الكبرى.
في مطلع شبابنا كنا نغني في الأعراس «شفته بيتمخطر في تل الزعتر، فدائي أسمر اسمه أبو عمار»، بينما كان المخيم قد سُوّي بالأرض، واغتصب من نجا منه، أو قُطعت أوصاله وسحل في السيارات، أو اختطف واختفت آثاره حتى اليوم، مرّت سنوات إلى أن بتُّ غير قادر على سماع هذه الكلمات، وأجزم أن من يرددها بعد أن عرف ما حل بالمخيم، لا يستوعب هول الكارثة.
في هذه الأيام يأتي من يغنّي «مجدك يا قلعة حلب» ويرقص، ويتمايل ويتهادى «وسهرنا تحت الدوالي، وياما قضينا ليالي، واللي بحبك سورية يرفع إيدو بالعالي»، المأساة هي ربط حب سورية «بوجودك يا بو حافظ»، فما دمت تحب سورية، فعليك أن تحب أبا حافظ، وإلا فأنت حاقد على سورية العروبة.
الحزن الذي لا ندركه يسكن في أفئدة ذوي ذلك الطفل السوري الذي نُبش قبره قبل أيام في قرية لبنانية، وأُخرج من حفرته ليدفن في مكان آخر.
العالم يبكي الجليد والتلوث البيئي والحراري، ونحن لا نجد قبراً لطفل، لا نترك الدود يهنأ بعينيه وبنانه.
إلى أي حضيض ممكن للنذالة والحقد أن يأخذا الإنسان؟ وفي حالتنا، ما الذي تعنيه كلمة إنسان بالضبط؟؟
في طفولتنا كانوا يصفون لنا الأطفال الذين يموتون بأنهم سيكونون من طيور الجنة، إلى أن رأيت شحوب وجه طفل دهسته سيارة، كان ملفوفاً في كفنه ولا أجنحة له، وجدّه يبكيه ويطلب منه أن يسامحه، لأنه لم يحقق له حلمه بشراء ملابس جديدة.
كانوا يقولون «نيال من له رطل من اللحم تحت التراب»، هؤلاء سيشفعون لنا في يوم القيامة.
نبشوا قبر طير شاحب، سحبوه من مرقده، ويقول البعض ليهوّن المصيبة، بأنهم في نهاية الأمر أبقوه في حفرته، ولكن لم يعد هذا مهمّاً، فقد لوّثوه بوساختهم، فما أحقرهم!
فلْيَبك أولئك الناس الطيّبون على الغابات المحترقة، وليندبوا جبال الجليد، وليفتحوا بيوت عزاء ولطميات على الغلاف الجوي المتمزّق، وليقيموا مآتـــــم وبيوت عزاء للحيوانات القطبية والأحــــياء المائية التي تواجه الفناء، هذه قضايا أكبر منا، نحن نطلب منهـــم فقط أن لا يجعلوا بلادنا الثكلى مكبّاً ومقابر لقمامتهم بتواطؤ حكـــامنا، ودون هذا، فما يخصنا في هذا الجانب من الكرة الأرضية ليس سوى حفرة صغيرة آمنة لنا ولطيور الجنة وللأجيال القادمة من بعدنا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    يا (سهيل كيوان) هل نظام الأمم المتحدة البيروقراطي (تمثيل مسرحي) هو ما خطر على بالي بعدما أنهيت ما ورد أسفل عنوان مقالتك (البكاء بعيدا عن الأمازون…) في جريدة القدس العربي،

    ولا أظن دولة الحداثة الأوربية فقط، قادرة على إنتاج وصناعة بطل دولي من هذه الطفلة،

    بل سبقتها صنعت الكويت من ابنة السفير من آل الصباح بعد 2/8/1990 في استغلال موضوع ليس نبش قبر طفل سوري في لبنان كونه من البدون (ليس مواطن/لاجئ) في الدولة،

    بل من حاضنات الأطفال في مستشفيات الكويت،

    فجمعت قوات من 38 لطرد صدام حسين وقواته من الكويت،

    لا تلوم من تم تعليمه على ثقافة الأنا أولاً، لدولة الحداثة،

    والتي لا تعترف إلّا بوجود الأنا (العُماني أو الإيراني أو الهندي أو الصهيوني يظن نفسه أبو الحضارة الإنسانية) بل كل الأديان أساسه اليهودية/الصهيونية،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك لا يحق لأهل ما بين دجلة والنيل أي شيء أو أي حضارة، فكل ما بها هي إنجاز يهودي،

    الإشكالية كل الإشكالية، في هذا الفكر هو نبوخذ نصر (السبي البابلي) وصلاح الدين الأيوبي (استرجاع فلسطين من الفرنجة) وصدام حسين (صواريخ عام 1991)،

    فالثلاثة من أهل محافظة صلاح الدين،

    وأضيف لها لماذا نقل كورش الفرس عاصمته من بلاد فارس، إلى وادي الرافدين بدل وادي النيل، بعد تحرير اليهود من السبي البابلي؟

    ولماذا بعده الاسكندر المقدوني، نقل عاصمته من اليونان، إلى وادي الرافدين بدل وادي النيل؟!

    ولماذا بعده علي بن أبي طالب نقل عاصمته من مدينة رسول الله، إلى بلاد وادي الرافدين بدل وادي النيل؟!

    وحتى الحسين بن علي عندما أراد إعلان الثورة حضر من مدينة رسول الله إلى وادي الرافدين بدل بلاد الشام أو وادي النيل، لماذا؟!??
    ??????

  3. يقول رائدة أبوصوي/القدس:

    كلما كبرنا بالعمر نضجنا اكثر
    تراكم التجارب والقضايا التي مرت بشريط حياتنا جعلتنا حكماء
    نعرف الصدق من الكذب
    لدينا فراسة في علم الوجوه
    وتلقين الاطفال وحشوهم بافكار ومعتقدات وجعلهم مثل قرص اللاب توب
    خطر كبير . ان لم يكن ظاهرا بالوقت الحاضر
    بالمستقبل سيظهر . عندما يتظاهر البعض بالاهتمام وهم في حقيقة الامر مستهترون تقع الطامة الكبرى . اصبح الاعلام والتسويق الاعلامي تجارة بلا رسالة . عندما تمثل طفلة غير ناضجة بافكارها انها مهتمة بغابات الامازون ويحاول من يقف وراءها ان يظهرها بصورة الملاك وتحصل ع الدعم من الجميع نجد الاختلاف في المعايير والحكم على مجريات الامور .هل هذه الطفلة مطلعة ع الضحايا في وطننا العربي من الاطفال ؟
    ام نحن واطفالنا صفر ع الشمال في نظر العالم المتحضر !!! الف سؤال وسؤال في انتظار الجواب .

  4. يقول كمال - نيويورك:

    لقد حزنت لعدة أسباب بعد قراءة المقال وربط الأحداث ببعضها. الوطن العربي من اقصاه الى اقصاه كمريض السرطان في آخر مراحله و قد خارت قواه و ما هي الا مسألة وقت حتى ينهار كليا. الوضع ميؤوس منه، الله المستعان.

  5. يقول تيسير خرما:

    المضحك بمنظري احتباس حراري أنه كلما حدث ظرف طبيعي استثنائي ينزلقون خلال إثبات نظرياتهم بذكر أن ما يحصل حالياً لم يحصل منذ 50 سنة أو منذ 100 سنة أو منذ قرون، أي أنه كان يحصل بفترات أقدم من تلاعب البشر بالبيئة فيثبتون دون أن يشعروا بأنه لا علاقة للبشر بحصول ظرف طبيعي استثنائي سيحصل بكل الأزمان ولا قدرة للبشر على تفادي وقوعه حتى لو عادوا لعصر حجري، إذن الهدف المرجح لممولي هؤلاء المنظرين هو تسويق تقنيات جديدة بتضليل لقنص موارد الدول بدل إقتصار على ذكر ميزات مباشرة إن وجد (وفر إنفاق، تقليل تلوث، الخ)

  6. يقول د. نبيل طنوس:

    أعجبتني سلاسة أسلوبك في التعبير. أةافق تماما على ما تقول بالنسبة لن ولاغانينا، ولكن بالنسبة للفتاة السويدية، أنا لست متأكدا من صحة تشخيصك لتصرفاتها وأقول مثل ستي: اذا ما بتأثر بتترك علامه”. يا ريت أولادنا اللي بجيلها يتداخلوا مثلها.

  7. يقول S.S.Abdullah:

    يا (سهيل كيوان) هل نظام الأمم المتحدة البيروقراطي (تمثيل مسرحي) هو ما خطر على بالي بعدما أنهيت ما ورد أسفل عنوان مقالتك (البكاء بعيدا عن الأمازون…) في جريدة القدس العربي،

    ولا أظن دولة الحداثة الأوربية فقط، قادرة على إنتاج وصناعة بطل دولي من هذه الطفلة،

    بل سبقتها دول مجلس التعاون في الخليج، وبالتحديد صنعت الكويت من ابنة السفير من آل الصباح بعد 2/8/1990 في استغلال موضوع، ليس نبش قبر طفل سوري في لبنان كونه من البدون (ليس مواطن/لاجئ) في الدولة،

    بل من حاضنات الأطفال في مستشفيات الكويت،

    فجمعت قوات من 38 دولة، لطرد (صدام حسين) وقواته من الكويت، ونجحت في ذلك بعد تشريد أهل الكويت في أصقاع المعمورة،

    ولذلك من وجهة نظري لا تلوم من تم تعليمه على ثقافة الأنا أولاً، لدولة الحداثة،

    والتي لا تعترف إلّا بوجود الأنا (العُماني أو الإيراني أو الهندي أو الصهيوني يظن نفسه أبو الحضارة الإنسانية) بل كل الأديان أساسه اليهودية/الصهيونية،

    ولذلك لا يحق لأهل ما بين دجلة والنيل أي شيء أو أي حضارة، فكل ما بها هي إنجاز يهودي،

  8. يقول S.S.Abdullah:

    الإشكالية كل الإشكالية، في هذا الفكر هو نبوخذ نصر (السبي البابلي) وصلاح الدين الأيوبي (استرجاع فلسطين من الفرنجة) وصدام حسين (صواريخ عام 1991)،

    فالثلاثة من أهل محافظة صلاح الدين،

    وأضيف لها لماذا نقل كورش الفرس عاصمته من بلاد فارس، إلى وادي الرافدين بدل وادي النيل، بعد تحرير اليهود من السبي البابلي؟

    ولماذا بعده الاسكندر المقدوني، نقل عاصمته من اليونان، إلى وادي الرافدين بدل وادي النيل؟!

    ولماذا بعده علي بن أبي طالب نقل عاصمته من مدينة رسول الله، إلى بلاد وادي الرافدين بدل وادي النيل؟!

    وحتى الحسين بن علي عندما أراد إعلان الثورة حضر من مدينة رسول الله إلى وادي الرافدين بدل بلاد الشام أو وادي النيل، لماذا؟!??
    ??????

  9. يقول سوري:

    الاحتباس الحراري وتدمير غابات الأمازون مشكلة اممية يتأثر بها كل ابن انثى على وجه المكورة، فنحن معنيون ايضا اكثر من غيرنا كون زعمائنا الأشاوس وانجالهم الكرام يعقدون صفقات دفن نفايات كيمائية ونووية في اراضينا هذا اذا لم يستخدم احدهم الكيماوي ليضربنا مباشرة كما فعل المجرم ابن المجرم بشار ابن ابيه. والطفل السوري الذي لم يجد في أرض لبنانية كانت لاجداده قبل سايكس بيكو حفرة تأوي رفاته فهو ضحية المجرم بشار ايضا وعنصرية هؤلاء الذين اخرجوا جثته من حفرتها.. يا حيف على كل من ينسى التاريخ

  10. يقول سليم:

    فقط بعض من الكلمات للقول اننا قتلنا بايدينا اطفالنا وشبابنا وشيوخنا وارضنا ولم يستطع لا الصهاينة ولا الاستعمار فعل ما فعلنا

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية