بعد حصار بيروت عام 1982 ومذابح صبرا وشاتيلا، صرخ محمود درويش في إلياذته الفلسطينية «مديح الظل العالي»:
«وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفلٍ لعبةً للموتِ عنقوديةً
يا هيروشيما العاشق العربي، أمريكا هي الطّاعون والطاعون أمريكا».
لقد كُتب الكثير في الأوبئة، وأول ما نذكره عادة رواية ألبير كامي «الطاعون» عام 1947، وصف خلالها الوباء الذي اجتاح وهران في الجزائر.
«الحب في زمن الكوليرا»، إحدى روائع ماركيز عام 1985، وهنالك رواية لأمريكية تدعى كاثرين آن بورتر، صدرت عام 1939 عن الأنفلونزا الإسبانية التي أهلكت حوالي خمسين مليوناً.
ذُكر الوباء في «الأيام» لطه حسين، يذكر شقيقه الذي يُعالج ضحايا الكوليرا ويصاب به ويموت، ونجيب محفوظ في «الحرافيش» حيث يقضي الوباء على الحي، الذي يعود إليه عاشور الناجي ليبدأ حياة جديدة أكثر عدلاً.
بعد بحثي عن الطاعون وأسبابه وتاريخه وكيف ينتقل من القوارض إلى البراغيث إلى البشر، اكتشفت أنّ درويش سامحه الله، ظلم الطاعون والبراغيث والقوارض، وأنّ صرخته اليائسة تلك لا تعطي أمريكا ما تستحق من الهجاء، بل هو توصيف معتدل، أكاد أقول إنّ فيه مجاملة لأسباب أجهلها، أمريكا أسوأ من الطاعون والملاريا والحصبة والكوليرا والسّل والجدري والسلمونيلا والخنّاق والكَلَب مجتمعين! لم أذكر السّرطان، فهو ليس وباءً، وهو طيّب الذّكر مقارنة بخبث أمريكا.
الفرق بين أمريكا والأوبئة هو أنّ أمريكا تمارس قتل الناس بطرق تعتبرها قانونية، ثم ترسل إلى أيتام الناجين من ضحاياها أكياس طحين وعلب بازيلاء وسكّريات تحمل علَم أمريكا، لتستعبدهم ولتبرّر نهب خيرات بلادهم، وفي الوقت ذاته لتبدوَ رفيقة وحنونة وتسعى إلى العدالة.
لا حلال ولا حرام في هذا الكون إلا ما تقرِّرُه أمريكا، هي التي تقرِّر ميزان الأخلاق؛ من هو المخرّب ومن المُصلح، ومن الطيّب والخبيث، وهي التي تشَيطِن وتحاصِر وتقتل، وتعفو وتسامح وتُمَلئِك (تجعله ملاكاً).
الوباء القاتل تسبّبه بكتيريا أو فيروس أو جرثومة البكتيريا غير واعية لما تسبّبه من ضرر للبشر، لا توجد بكتيريا أو جرثومة تقصد قتل طفل أو إنسان أو حيوان أو نبتة، لو حوكمت الجراثيم والفيروسات والبكتيريات بالعدل لبُرِّئت من تهمة القتل العمد!
أقصى إدانة ممكن أن تصله بكتيريا هو التسبّب في موت آخرين من غير قصد وبجهل تام، ولو كان لدى البكتيريا قدرة على التّعبير لاعتذرت من ذوي الأطفال وسائر ضحاياها وعلى ما سببته من أذى للبشرية على مدى عصور، وشعرت الجراثيم بالنّدم وطلبت المغفرة من ضحاياها، ولرأينا خبراً عاجلاً وانتقالاً مباشراً على «الجزيرة مباشر» لنقل المؤتمر الصحافي الذي يقيمه الناطق الرّسمي باسم الوباء، يعرب من خلاله عن أسفه واعتذاره للبشرية على ما سبّبه من آلام وضحايا، وسيقول معلقون «إنّ أكثرَ البكتيريا في أجسامنا، وهي بالمليارات من الأنواع غير ضارّة، بل ويحتاجها الإنسان لصحّته وسعادته، فمنها ما يسهّل الهضم، ومنها ما يقوّي مناعة الجسم، ومنها ما يدعم وظيفة الكبد في التخلّص من السُّموم».
أمريكا لا تعتذر، وهي واعية تماماً لأفعالها، أمريكا تمارس القتل والنّهب للشّعوب الفقيرة والمستضعفة، مع سبق إصرار وترصّد من غير أيِّ شعور بالندم أو الذّنب.
أمريكا هي أعظم أمراض البشرية، وباء انتشر بعد الحرب العالمية الثانية، وما زال مستفحلاً، ديمقراطية أمريكا هي أعظم كذبات التاريخ وقذاراته، سوف تضحك الأجيال القادمة لمجرّد سماع جملة الحزب الديمقراطي الأمريكي، ولو عاد فلاسفة أثينا ورأوا أفعال هذه الديمقراطية، لاعتذروا وأعادوا تسميتها، وأعادوا الجدل في جوهرها وفحواها وجدواها.
من الذي يتحكّم بقرارات هؤلاء الذين يزعمون أنهم حراس الديمقراطية؟
أي ظلام وحقد وتعطّش للدّم، الكامن في أحشاء هذه الديمقراطية!
الديمقراطية سيّدة الجرائم وأبشعها في التاريخ البشري، لا مقارنة بين المغول وأمريكا؛ المغول شعب مسالم جداً وطيّب ويستحق الثناء مقارنة بأصحاب القرار في أمريكا، من الخطأ الشائع هو وصف مجرمي هذا العصر بالبرابرة أو المغول والتتار وغيرهم، لا مقارنة بين شعوب خرجت للقتال بسبب حاجة أو بحثّ زعيم ما بينها عن المَجد وهو حال عصره، وبين أمّة متخمة، أحد أخطر أمراضها هي السمنة الزائدة، ثم تخرج لقتال البشر بهدف زيادة سمنتها ومليارات أغنيائها؛ تصرف أمريكا سنوياً 117 مليار دولار على السّمنة الزائدة، وفقط لتشخيصها والوقاية منها وعلاجها، وهذا لا يشمل الأمراض التي تسبّبها، وتصل نسبة البالغين من ذوي الوزن الزائد في أمريكا إلى أكثر من 65%.
الرئيس الأمريكي لا يبدو من ذوي الوزن الزائد، لكنه يشبه لوحة من الجبص، ملامحه خالية من أي تعبير إنساني أو مشاعر، وكأنّ أنسجة جسده ووجهه من خيوط فولاذية أو من السّليكون، يبدو مثل روبوت وهو يُطلق من بين شدقيه كلمات لا يفقه معناها، ولا إلى مَن يوجّهها ولماذا! لا يشعر بأنّه ينطق، تشعرُ أنّه خرج معلّباً جاهزاً من ماكينة صناعة الأواني البلاستيكية، وتسأل نفسك هل عاش هذا في رحم أنثى تسعة أشهر!؟ هل أنجبته والدته في مخاضٍ وألمٍ، ثم أرضعته، ثم صار يحبو، ثم نطق، ثم صار يمشي، هل دغدغه والده أو جدّه، مثل الجدّ نبهان وحفيدته روح الرّوح.
تشعر أنّه رضَع بلاتينيوم ويورانيوم وفوسفوراً، ولم يحظ بضمّة إلى صدرٍ مُحبٍ حنون من والد أو عمٍّ أو خال! لا أعتقد أنّ لأيِّ رئيسٍ أمريكي أخوالاً وأعماماً وأولاداً وبنات أخوات وخالات وعمّات، لا يمكن لهذه الروبوتات أن تكون لها صلات رحم ورحمة.
لا هدف لهذا الروبوت المتحرّك سوى أن يعاد انتخابه، وهو مُبرمج ليقول لا لوقف الحرب على قطاع غزة، ولو كانت غير غزّة أيضاً لقال الكلام نفسه! هذا الروبوت يرجو ويأمل من الاحتلال تخفيض أعداد القتلى بين المدنيين والأطفال جوعاً ومرضاً، ولكنّه يمنح مجرمي حرب الإبادة التبريكات ويقدم أسلحته ويوقّع على إرسالها!
مع هذا الرئيس الأمريكي تشعر بتفاهة البشريّة التي يتحكّم في مصيرها مثل هذا الذي لا يرى في قتل أكثر من عشرة آلاف طفل سبباً وجيهاً لوقف الحرب.
يجب أن تسجّل الحِقْبة الأمريكية على أنّها الأكثر انحطاطاً في تاريخ البشرية، فقد هبط فيها البشر من مكانتهم الخاصة التي حاولت الفلسفات والأديان ترفيعهم فيها عن البهائم ووحوش الأدغال والزواحف، ولكن أمريكا أفشلت المشروع الجميل العبقري الذي عمل عليه البشر منذ آلاف السنين، فأعادت البشر إلى درجة متساوية مع البهائم.
أمريكا أفشلت محاولة فصل الإنسان عن البهيمة، «إنّهم كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا».
لقد تغلّب العلماء على كثير من الأوبئة، ومن المفارقات أن يكون من بينهم أمريكيون، وما زال أمام البشَر الكثير من التحدّيات من أمراض وأوبئة، وأشدُّها إلحاحاً التغلّب على البكتيريا الأمريكية، وتحويلها إلى بكتيريا نافعة، أو غير ضارَّة على الأقل.