البلاغة العربية الجديدة مسارات ومقاربات.. من العلم إلى الحياة

«تكمن القيمة الحقيقية للمشاريع المعرفية الكبرى في قدرتها على تجاوز إكراهات زمنها الخاص، وانفتاحها على المستقبل». انطلاقا من هذا النص المُقتَبس من صميم الكتاب قيد الدراسة تحاول هذه المقالة جاهدةً أن تعالج منهجية أقسامه، في ضوء الأهمية التي يحظى بها حقلُهُ الكوني، إن صح التعبير، لهذا الاصطلاح؛ فقد سعى الكتاب الموسوم بـ«البلاغة العربية الجديدة مسارات ومقاربات» لمؤلفِه عماد عبد اللطيف، والصادر عن دار كنوز المعرفة في عمان عام 2020 وبطبعتين للعام نفسه، سعى جاهدا لتوطين منهجية جديدة في البحث البلاغي العربي، كما دعا لتجديد الأساليب والمناهج القرائية لتراثنا البلاغي العربي ضمن سياقه العام، ومن ثم مقاربته مع التيارات البلاغية الكونية التي تشمل أغلب البلاغات العربية والغربية، وغير الغربية أيضا.
لقد مثّل الكتاب خطوة جريئة ومحاولة أخرى لرصد أهم محاولات التجديد في الدرس البلاغي العربي المعاصر؛ إذ ساهم الكتاب ومنذ اللحظة في رص حجر الزاوية لتصورات بلاغية لن تموت. وأثبت بأبحاثة أن العلم والحياة شيئان متلازمان، وأن البلاغة بوصفها أحدَ أهم أركان العلوم الأدبية، ستظل الركن الأساس من أركان تغيير المستقبل.

تحولات الظواهر البلاغية

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسية، يشتمل كلٌ منها على عدد من المباحث، التي تغوص في تحليل مسارات البحث البلاغي، وتحاول تلك المباحث جاهدةً أن تدْرسَ تحولاتِ الظواهر البلاغية العربية في أغلب الخطابات، وتقاربها في بنيتها النسقية للتطور البلاغي بين لغات العالم الكبرى في أوج هيمنتها، وعلى مرّ العصور والأزمنة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، مقدمة الكتاب التي تقومُ على المفارقة الدلالية وهي تشيرُ لموت البلاغة، فقد توحي إليك عنونةُ المقدمةِ: «التابوت الفارغ في نقد موت البلاغة» إلى التسليم بموت البلاغة كما يثبت ذلك المفتتح بعد العنونة؛ إذ يستشهدُ الباحث بكم الباحثين والنقاد الغربيين، الذين سلّموا بموت البلاغة، وأيقنوا أنها عِلمٌ لا رجعة فيه.. ولكنْ ولا غرابة لهذا الاختيار من باحث متمرس في مجال الإقناع، وغاوٍ لتحليل تموضع الكائن البلاغي؛ إذ يجيب بهذا الطرح عن تساؤل خفي للقارئ في هذا السياق فيقول: «لقد اخترت أن تكون فاتحة كتابي تفنيدًا لأسطورة موت البلاغة؛ كي أبرهن على أن تابوت البلاغة الذي حَمَلَه بعضهم على أكتافهم، وتلفحوا بالسواد، فارغ، بلا جثة. فالبلاغةُ حيةٌ تراها وأنت تسير في الطرقات، في شكل لافتات إعلانية ملتصقة على حائط قديم، أو رموزٍ وأيقوناتٍ دعائية مشدودة بين عمودي إنارةِ الطريق، أو أصواتِ وعظٍ تتدفقُ من مكبرات صوت مسجدٍ صغير. فإن أدرككَ التعبُ ووقفت لتستريح، ستستمعُ إليها في شكل جدال بين بائع متجول ومشترٍ مساوم، أو حوار بين عابر طريق ومتسول لحوح، أو محادثة بين شاب مغوٍ وفتاة بريئة. فإن عدت إلى بيتك ستجد البلاغة تنتظرك في شكل سرديات أفراد الأسرة عن يومهم الطويل، أو تقنيات حجاج معقدة تستعملها أم تقنع طفلها بإنهاء طعامه، أو أنواع استمالة بارعة يستعملها الأبناء لحمل والِديْهم على تلبية ما يريدون. حتى في نومك، ستتوالى الصورُ على مخيلتك لتصنع توجهك نحو يومك التالي، ونحو الآخرين. باختصار، حيثما وجد بشرٌ يتواصلون، يمكنك رؤية البلاغة حية بينهم، كلاما، وعلما».
هذا الكم الجارف من التصورات المحتملة لأشكالٍ بلاغيةٍ جديدةٍ، حتم على الباحث رسم خريطة لدراستها؛ فقد أسس لها تنظيرا وتطبيقا على الأسس المعرفية، التي اجترحها المجددون في الدرس البلاغي العربي، وهو يبحث عن قراءات تجيب عن سؤال (كيف يمكن الوصول إلى بلاغة عربية جديدة؟) تشكلت وتموضعت إرهاصاتُها في مراحل زمنية مختلفة، عبر تيارات ثقافية واجتماعية معينة؛ لذلك فقد كان الباحثُ حريصا في أغلب بحوث كتابه على وضع فلسفات منطقية لتقنين مسارات البلاغة الكونية، ومن ثم ربطها بالبلاغة العربية، وبيان مكانة الأخيرة منها، من وجهة نظر الآخر، هذا من جانب ووجهة نظر الباحثين العرب على اختلاف مراحل وجودهم الزمني من جانب آخر.
لقد قام هذا المنجز في قسمه الأول على برهنة الحضور العربي في تجديد الإدراك المعاصر للتراث البلاغي الكوني، ومن ثم معالجة التصورات البلاغية العربية، في ضوء بلاغة الآخر التراثية، وفي محاولة من الباحث لموازنة كفة التصور الكوني للبلاغة، يعالج تراث التجديد البلاغي العربي، وهو يرصد أهم محاولات التجديد؛ إذ يحاول جاهدا في دراسة وصفية ببلوغرافية أن يُصنف ما كُتب، متتبعا أياه منهجيا ليترك الفراغ قائما ويفتح الباب مشرعا لجوانبَ كبيرة في الدرس البلاغي العربي، ما يعني أن الأرض أصبحت خصبة لزراعة العديد من الدراسات المطلوبة للنهوض بالبلاغة العربية ورصها ضمن سياقها الكوني، وهو يرى أن البلاغة تشمل كل جوانب الحياة.

يقترح الكاتب مقاربات لاستثمار إرث العداء الأفلاطوني للبلاغة الأرسطية، التي تماشت مع البلاغة العربية يوم بُنيت على ثقافة تأسست على تقديس البلاغة؛ لأنها سليلة النص القرآني وسجية القبيلة العربية، التي كانت تحتفي بشاعرها وأديبها كلما نبغ بلاغيا.

البلاغة النقدية

كثيرا ما يعنون الباحث بحوثه بتساؤلات يجيب عنها في محاولات البحث العميقة والقائمة على استنطاق النصوص البلاغية والنقدية البلاغية، في إطلالة عامة على البلاغتين الغربية والعربية، وهو يشير بضرورة ملحة ضمن سياقها الزماني والمكاني والأيديولوجي، حيث يفند الباحث أسطورةَ مركزية البلاغة في القسم الأول من الكتاب، منتقدا إياها عند أرسطو وصولا لأفلاطون عربيا.. في إشارة منه لأحد أهم كتبه الذي اهتم بموقف أفلاطون من البلاغة الأرسطية، وهو بهذا يدلنا على نوع من أنواع البلاغات التي تم أحياؤها في أمريكا باسم «البلاغة النقدية Criticl Rhetoric»؛ فهو يقترح مقاربات لاستثمار إرث العداء الأفلاطوني للبلاغة الأرسطية، التي تماشت مع البلاغة العربية يوم بُنيت على ثقافة تأسست على تقديس البلاغة؛ لأنها سليلة النص القرآني وسجية القبيلة العربية، التي كانت تحتفي بشاعرها وأديبها كلما نبغ بلاغيا. ومن هذا المنطلق يتساءل الباحث أنْ كيف نجدد التراث البلاغي، وهل من فائدة تذكر في تجاوز مركزية البلاغة العربية أيضا؟ وما علاقة هذا التجديد والتجاوز بالبواكير الأولى للبلاغة العربية في العصر الحديث؟ وكيف طورت المدرسة الأمريكية بلاغة أفلاطون وأحيتها، وما هي هذه البلاغة؟ ليدلنا إلى أن البلاغة يجب أن تنزل من قصرها العاجي السلطوي نحو المهمش والمسحوق، أي أنها بلاغة الحياة العامة للأمم والشعوب ولكل الطبقات.
ومن حيث يدرس الباحث في القسم الثاني البلاغة الكونية المعاصرة، فهو يناقش أقسامها في العموم والخصوص، غربيا وعربيا مؤكدا لمرة أخرى على أهمية البلاغة النقدية في سياقها الغربي، كما يؤكد على أنواع البلاغات العربية المعاصرة وطرق إنتاجها وتلقيها، والمدارس والتيارات والمناهج التي أثرت فيها وكونتها. ليصل للجزء الأهم في البلاغة العربية في وقتنا الراهن وهي بلاغة الجمهور في القسم الثالث من الكتاب بوصفها أحد أهم البلاغات العربية الجديدة، وهي التي أسس لها الباحث في كثير من دراساته على أساس المخاطَب والهوية والإسهام بين القديم والمعاصر والمتلقي (الجمهور) في سياقه السياسي والاجتماعي والثقافي؛ ليشير في القسم الرابع لآفاق تدريس البلاغة العربية الجديدة، بعدما درس مراحل وأشكال طرق تدريس البلاغات الكونية القديمة عند اليونان والمصريين والصينيين والعرب، ومن ثم كشف أن البلاغة لا تزال توصي بربط منهاجها بالحياة ومن الضروري أن تتجاوز الاهتمام بالعلامة اللغوية، على حساب غيرها من العلامات كالصور والحركات، كما أنها يجب أن تتجاوز مرحلة تقديس النصوص العليا للأمثلة، مع ضرورة توظيف خطابات الحياة اليومية في توضيح وتبسيط الأدوات والأشكال البلاغية للتخاطب الإنساني، وهي علم حياتي ثقافي مهاري. ويختتمُ الباحث كتابه بمديح البلاغة الجديدة، ويشيد بصلابتها وهي تقاوم محاولات الإزاحة؛ ليثبت لنا بكتابه هذا أن البلاغة حية متجددة، وأن التابوت الفارغ الذي حمله نعاتها كان فارغا فعلا، وأن صندوقه سيظل عامرا بالحياة حد الاكتظاظ.

باحث وأكاديمي عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية