هذا العنوان محيل على قول عربيّ جار هو: البلاء موكّل بالمنطق، ومعناه البسيط أنّ المنطق أي الكلام هو مجلبة للبلاء، وهو أصل المكائد؛ فكم من حروب ووقائع كانت من جرّاء كلمة. مثل هذا القول إن حُمل على النّصح عنى أنّه على المرء أن يسكت، وأنّ الكلام إن كان من فضّة فالصمت من ذهب، ومن الحمق أن تفرّط في أغلى المعادن وتشتري بها المعدن الأقلّ، معدن لن يورث إلاّ البلاء واللعنة على الناطقين.
عنوان مقالنا عكْس للقول الجاري المضمر لأنّه اختصار لفكرة تقول إنّ البلاغة التي هي في التصوّر الكلاسيكي كلام يبطل بالحجة الباطل، ويحقّ بالبرهان الحقّ، لا يمكن أن تكون إلاّ بالكلام. سوف يفاجأ كثير من القرّاء حين يعرفون أنّ المنطق هو الكلام، وليست اللوغوس كما استقرّ في معناه الدالّ على العقلانية والبصيرة. لكنّ هذه المفاجأة لا قيمة لها إن عرف الناس أنّ المنطق أو اللوغوس تعني في أصل وضعها من اللغة اليونانية الكلام أو الخطاب، وأنّ كثيرا من الفلاسفة من أمثال إفلاطون وأرسطو والرواقيّين استعملوه في هذا المعنى، وأنّ ترجمة العرب للوغوس بالمنطق كان توفيقا من الله ورضوانا كبيرا؛ فإذا جمعنا المنطق بمعنييه الأصلي والمنشعب دلّ ذلك على الفرضيّة المعكوسة: إنّه ليس أفضل للمرء من أن يعرض عقله على طرف لسانه.
الخطابة هي قول مبنيّ بشكل محكم على الحجاج، وتهدف إلى الانتصار بالحجة على الباطل، في سياق معلوم هو القضاء.
هذا بالضبط ما يشهد به تاريخ نشأة البلاغة عند اليونانيين، إذ تقول القصّة إنّ أوّل نشأتها هناك كان في القرن الخامس قبل الميلاد في سرقوسة، ذلك أنّ الطّاغيتين هيرون وجيلون صادرا أملاك السرقوسيّين ورحلاهم عنها قسرا؛ فأراد السرقوسيّون استعادة أملاكهم وقدّموا دعاوى لاسترجاع ما غصب منهم، وتطلب الأمر أن يجدوا فصحاء مفوّهين لإقناع القضاة. وحين نجح هؤلاء في الإقناع واستردت الأملاك باتت البلاغة موضوع تدريس وتعليم، وراجت بين التجّار وغيرهم في سرقوسة وفي أثينا. فالخطابة هي قول مبنيّ بشكل محكم على الحجاج، وتهدف إلى الانتصار بالحجة على الباطل، في سياق معلوم هو القضاء. ويقال إنّ بعض المفوّهين من الفلاسفة السّفسطائيّين من أمثال كوراكس السرقوسي وتلميذه تيزياس كانوا من مؤلفي مختصرات الفصاحة في الغرض، وراجت هذه المؤلفات وصارت علما يدرس وتجارة مربحة؛ حتّى إنّ غورغياس السّفسطائي (ت375 ق.م) الذي يقال إنّه أثرى بالبلاغة ثراء فاحشا قال لسقراط في محاورتهما الشهيرة في غورغياس أفلاطون: «آه لو كنتَ يا سقراط على الأقلّ تعرف كلّ شيء [عن البلاغة] ولا سيّما لو كنت تعرف أنّها تستوعب كلّ القدْرات البشريّة وتحكم عليها قبضتهاǃ إليك هذه الحجّة اللافتة: لقد تعوّدت أنْ أزورَ مع شقيقي وأطبّاء آخرين المرضى الذين كانوا لا يقبلون أن يتجرّعوا أدواءهم، ولا أن يسمحوا للطبيب بأن يشقّ أجسادهم أو يكويَهم. وحيث كان الطبيب يعجز عن إقناعهم كنتُ أنا أنجحُ في ذلك، ولم يكن لي من فنّ سوى البلاغة». ويضيف غورغياس: «هبْ أنّ هناك خطيبا وطبيبا اجتمعا في مدينة ما من المدن تختارها، واقتضى الأمر أن يتناظرا أمام الملأ كي يعرف النّاس أيّا منهما الأجدر بأن يكون طبيبا. أنا أجزم قاطعا أنّ الطبيب لن يكون شيئا يذكر، وأنّ الرجل الذي يحسن الكلام هو من سيصطفيه الجمهور كي يكون الطبيبَ إن اختار هو ذلك… فلا يوجدُ شيءٌ لا يقدر الخطيب على الحديث فيه على رأس الملأ، إنّه يتحدّث فيه بِطاقة كبرى لا يحوزها أيُّ مختصّ. آه ما أعظمها قوّةً قوةُ هذا الفنّ البلاغيّ». فردّ سقراط عليه قائلا: «ليس للبلاغة من حاجة إلى أن تعرف شيئا يذكر عن ماهية الأشياء التي تتحدّث عنها؛ فلقد اكتشفت وببساطة إجراءً يساعدُ على الإقناع، وكانت النتيجة أنّه أمام جمهور من الجهلة بدت البلاغة وكأنّها تعرف أكثر ممّا يعرفه العارفون.أنا أسمّي هذا النشاط، وسوف أكون مختصرا في التسمية، الإطراء».
كانت البلاغة عند المتقاضي موكَّلة بالمنطق، وكان البلاء عند القاضي هو الموكّل به. وانتصر الفصيح المتقاضِي على الفصيح القاضي في جمهورية بلا جمهور
لن ندخل هنا في صراع الآراء بين السفسطائين المنتصرين لبلاغة تصنع بالكلام العدالة والسياسة، وغيرهم من الفلاسفة من أمثال سقراط وإفلاطون الذي يرون أنّها بلاغة مبنية على المغالطات والاستنتاجات الكاذبة، وأنّ البلاغة يمكن أن تدار بوسائلها الذاتية على الكلام نفسه، وتصل بأقيسة صحيحة إلى نتائج سليمة ويكون غرضها الإقناع، ما في ذلك شكّ لكنه إقناع مبنيّ على الجدلية المتعقّلة والمتسلحة بأعوان المنطق. وهذا ما سعى إليه أرسطو في مصنفه الموسوم باسم الريطوريقا.
في الحضارة العربية الإسلامية بعض الإشارات إلى أنّ الفصاحة يمكن أن توجب الحقوق وتنتصر على الباطل، فلقد أورد أبو الفرج الإصبهاني في «الأغاني» ما دار بين رجل من العامة وناظر في المظالم. فبعد انقضاء المجلس رأى رجلا فسأله عن حاجته فطلب منه أن يدنيه لأنه مظلوم وأنّه هو نفسه من ظلمه، فسأله وما الذي حجبه ومجلسه مفتوح فقال: «حجبك عنّي هيبتي لك ولسانك وفصاحتك واطّراد حجّتك». يبدو القاضي هنا هو من يحتكم إلى الحجة والمنطق وليس المتقاضي، كما في حكاية نشأة بلاغة اليونان؛ والغريب أنّ الفصاحة وردت ههنا في سياق معناها اليُوناني مرتبطة باللسان أو بالمنطق من ناحية، وبالحجاج من ناحية ثانية، وفيها ركن ثالث هو هيبة القاضي – الفصيح، وهذا الثالوث يقرب كثيرا من السجلات الثلاثة للإقناع عند أرسطو، وهي الإيتوس أو قوة الإقناع المرتبطة بمصداقية الخطيب، وفيها تكون المهابة جزءا كبيرا؛ والباتوس وهو الجزء الانفعالي في الخطيب المؤثّر، لأنّ الفصاحة عادة ما تنتصر بالتحكم في المشاعر وإثارتها وتهدئتها، فبالمشاعر يحمل المرء على تغيير موقفه، وهذا جلي في العدالة والسياسة، أمّا اللوغوس وهو القسم الثالث من سجلات الإقناع الثلاثة ففيه يكون الإقناع بالعقل لا بالعاطفة والانفعال، وذلك يكون بوسائط هي وضوح الرسالة (القول) واتباع الخطة السليمة في عرض الفكرة والاحتكام إلى الأمثلة والركن الأهمّ فيها هو حسن تأسيس الحجّة (حجة المجادِل) والطعن (على حجج المجادَل) معا.
وفي بقية خبر الأغاني لمعة أخرى تستحقّ الذكر. فلقد سأل القائم على المظالم المتظلم: «فيمَ ظلمتك؟ فقال:ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن، فإذا وجب خراجها أدّيته باسمي لئلاّ يثبُت لك اسم في ملكها فيبطل ملكي؛ فوكيلُك يأخُذُ غلّتها وأنا أؤدّي خراجَها وهذا ممّا لم يُسمع بمثله في الظلم». قال الناظر في المظالم: هذا قول تحتاج فيه إلى بيّنة وشهود وأشياء؛ فردّ الرّجل بعد أن طلب الأمان: البيّنة هم الشهود وإذا شهدوا فليس يُحتاج معهم إلى شيء ..ايش هذه الأشياء إلاّ الغيّ والتغطرس؟ فضحك وقال: صدقت والبلاء موكّل بالمنطق». (الأغاني، 22/465).
كانت البلاغة لحاجة أقوى من حاجة أهل سرقوس في الأسطورة اليونانية لأنّ الغطرسة كانت أكبر ؛ وكانت البلاغة عند المتقاضي موكَّلة بالمنطق، وكان البلاء عند القاضي هو الموكّل به. وانتصر الفصيح المتقاضِي على الفصيح القاضي في جمهورية بلا جمهور وفي نصّ هو خبر انفلت من كتب البلاغيين العرب الذين سكتوا عن فصاحة العدالة أصل كلّ فصاحة.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
مقال ممتع أستاذ توفيق. ما أريد الاشارة إليه هو أن الخطابة صناعة منطقية مثل غيرها من الجدل والسفسطة والشعر. لكن هذا المعنى الموسع يخص الموروث العربي لارغانون ارسطو. في الموروث الغربي لهذا الكتاب الخطابة كما الشعر ليس من الصنائع المنطقية في شيء بل هي خارجة عن سلسلة المتن الارسطي المنطقي. عند الفلاسفة العرب (ابن رشد) هناك تمييز دائم بين هذه الصنائع بل إن بحثهم انصب على دحض اعتبار الخطابة قولا حجّيا صارما. غاية الخطابة هي الغلبة والاقناع وبالتالي فهي قريبة من السفسطة والشعر. اعتقد ان اعتبارك الخطابة قول في الحجة الصارمة إنما مصدره الارث الأدبي العربي في البلاغة. وأنت كما لاحظت ذلك في المقال تورد استشهادات من كتاب الأغاني للأصفهاني. نستنتج إذن أن ابن رشد، باعتبره فيلسوفا وليس نحويا أو خطابيا، كان يريد أن يعيد تأسيس استقلالية اليقين والحقيقة، التي هي غاية الانسان بما هو انسان، ليس اعتمادا على الأقاويل الخطابية وإنما على الأقاويل البرهانية (الرياضيات؛ الهندسة والحساب.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
تحيه وبعد مقولة
ان البلاغه عند اليونان وتذكر افلاطون وما ادارك ما افلاطون وتاريخنا ملىء بالكنوز
والكاتب عالم الا ان المد الاوربى شوش على بعض التوانسه وربما نسخ صلتهم بالاصاله العربيه
واولها الوحى والحديث وما قاله الفقهاء وحتى قبل البعثه كانت البلاغه حاضره عند العرب
وَكَاءٍ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِـبٍ زِيَـادَتُهُ أَو نَقْصُـهُ فِـي التَّكَلُّـمِ
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ
أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جثث وهام
وبطون كتب العرب فى البلاغه حاضره وكافيه وامحى افلاطون وغيره نحن نريد نهضه نعيد فيها ما تركه الاجداد اساس اصيل ونقى ونبنى عليه