بقيت أختي في مكانها وقت الحرب، أمّا أنا فرحلت، ليس بعيداً، إلى بلد مجاور آمن، وتمكّنت بسبب خبرتي في مجال الطبخ وإدارة المطاعم، إذ امتلكت واحداً في مدينتي القديمة، من أن أشارك أحد السكّان المحليّين في مطعم صغير، أشرف عليه وأساهم في صنع الطعام مع ثلاثة عمّال آخرين، نقدّم التبولة والكبّة المقليّة والحمّص، وورق العنب المحشيّ بالأرز واللحم، ولدينا كلّ يوم طبق خاصّ يكرّر بشكل دوريّ. المطعم صغير ومرتّب وفي غاية النظافة، والبلدة وادعة. صار لدينا زبائن كثر، ومنهم من لا يفارقنا على الغداء أو العشاء، فتحسّنت أحوالي الماليّة، في حين ساءت حال أختي نتيجة توقّفها عن عملها في البنك الذي نهب فرعه في مدينتنا أثناء الاضطرابات التي حدثت بين الثوّار والجيش، ثمّ احترق بعد ذلك عن بكرة أبيه بسقوط صاروخ مدمّر على المنطقة.
حين انفتحت الحدود البريّة بين الدولتين أردت أن أشتري لأختي حقيبة مملوءة بالثياب والأحذية والإكسسوارات وبكل ما تحبّه، عوضاً عمّا نهب أو تضرر من حاجيّاتها بسبب الحرب. دلّني بعض من عرفتهم هنا على مدينة صغيرة قريبة فيها بضائع أمريكيّة مستوردة وأسعارها رخيصة. مشيت هناك في سوق المدينة، كأنّني في حلم. كان يشبه بشكل لا يصدّق، لا بل بشكل معجز سوق مدينتنا الصغيرة، السوق الرئيس فيها، إذ الفوضى ذاتها، والتقشّف ذاته: دكّان اللحام إلى جانب بائع القماش، وبجانبه بيّاع الخردوات، فمصلّح الأحذية، والبقالة التي تبيع موادّ غذائيّة ومنظّفات بالجملة.. تقدّمت قليلاً، فلا بدّ من أن أجد بعد الشوّاء محلّ حلويات، فالمزارعون والرعاة سينحدرون من المناطق المحيطة إلى الضاحية لبيع منتجاتهم وشراء حاجيّاتهم، وهم لا شكّ سيشبعون غددهم اللعابية بقطر الكنافة بعد وجبة كباب دسمة! سنجد دكّان الحلاّق أيضاً، لكن لن يقف خلف كرسيّ الحلاقة المعلّم عماد حلاق حارتنا، الذي قتل بقصف صاروخي على الحيّ، وفعلاً وجدت دكّان الحلاّق سامر، كما كتب على لوحته. أعتقد أنّني سأجد دكّاناً للأسمدة الزراعيّة والبذار، فهذا منطقّيّ لمكان تحيط به حقول ومشاتل، ثم الكهربجي، وورشة النجارة، ومنجّد الفرش.
لم أحظ بمتعة تجوّل مثل التي أنا فيها مذ كنت آخر مرّة في بلدي قبل سنوات، وبين وقفة وأخرى أحاول أن أتثبّت من أنّني في مكان آخر، وليس في مدينتي التي سحقتها الحرب، لكن أقسم كأنّها هي! الأزقّة التي تنطوي على البيوت لا بدّ من أن تكون خلف السوق تماماً، عرّجت على أحدها بثقة، وكأنّني أتّجه نحو بيتنا، الحارات أيضاً عتيقة تميل فيها البيوت على بعضها، وتفوح منها رائحة الألفة، لا بذخ أو بهرجة، لكن صيحات فرحة لأطفال مشغولين بلعبهم من وراء الأبواب المواربة، وبعضهم أغلق بحركته الزقاق الضيّق بين صفين للمنازل المتلاصقة. اصطدت بنظرة نحو العمق باباً حديدياً أسود اللون، أوسع من باقي الأبواب، لقد خطف قلبي، فغذذت السير نحوه، وكلّما دنوت منه تبيّن لي شبهه الشديد بباب بيتنا: درفتان ثقيلتان، النصف العلوي لكلّ منهما مزيّن بثلاث نجمات متتاليّة ونافرة من الحديد الفضيّ، وتحت النجمة الوسطى مقبض كروي فضيّ أيضاً. حين وقفت قبالة الباب وجدته مثل باب بيتنا موارباً ومسنوداً بحجرة تمنع غلقه، وجاءني خاطر أننّي لو ضغطت على زرّ الجرس، الذي من الواضح أنّه ينتمي إلى عقود خلت، ضغطة طويلة، سيصدر صوتاً متقطّعاً مبحوحاً كما يفعل جرس بيتنا، حين تضغط عليه لأكثر من خمس ثوان، وهذا ما حدث حقّاً…سمعت خطوات تتسارع لتصير هرولة، خطوات غير ثقيلة إطلاقاً يزداد باقترابها خفقان قلبي، وأطلّت طفلة بوجه أبيض، وشعر أسود كثيف ومسترسل وقدّرت أنّها في السابعة من عمرها، حاولت أن أنحني لأتبيّنها، فرفعت وجهها إليّ بغتة، لتصير عيناي في عينيها، ففزعت، وانتابني دوار… ارتددت إلى الوراء قليلاً محاولة الاتزان! وقبل أن أمعن نظري أكثر في حدقتيها اللتين لابدّ من أنّهما بنيّتان، أو أسمع صوتها، أو أضع إصبعي في غمّازة سأجدها لا شكّ في خدّها الأيمن عدت من حيث أتيت خشية أن تكون رائحة كولونيا الليمون التي تفوح منها هي ذاتها الكولونيا التي أهدتني إيّاها عمّتي، هناك في بيتنا، قبل ثلاثين سنة.
كاتبة سورية
مبدعة دكتورة شهلا..القصة تنتمي إلى صناعة الظلّ في كهف افلاطون.وأنت منْ كسرتي ذلك الظلّ الثقيل بوهج النور.
اقرأ لك ، كلماتك متألقة ودافئة الإحساس وتصل بسهولة ويسر إلى القاريء بدون تصنّع.
قصةٌ رائعة حقا، أهنئ الكاتبة لأنها اختصرت بكلمات قليلة تاريخَ وحاضر ومستقبل أرضٍ تبلغُ مساحتُها قارّةً، هي الشرق الأوسط السعيد الذي نعيش فيه…
شكرًا أختي الدكتورة شهلا العجيليّ على الإمتاع والمؤانسة بهذه القصّة القصيرة إنما هي في ميزان الأدب ( شهلا ) عسل.
الأهمّ الاستمرار في العطاء الأدبيّ رغم أنف كورونا وظروف العزل.فالعطاء أصل الإبداع المثمر ذي الأمل.