“في مجتمع صحي، يجب أن يتم سماع أكثر من صوت واحد”. هذا ما قاله الدكتور الصيني لي وين ليانغ قبل وفاته، وهو الذي كان أول من اكتشف وباء الفيروس التاجي، هذا الطبيب الذي مورس ضده القمع والرقابة من قبل السلطات الصينية، التي ترفض التعددية، وتقمع حرية التعبير. وفي كلامه إشارة واضحة لأهمية سماع الرأي المخالف الذي ينبه للخطر، والحاجة إلى الثقة المتبادلة بين الشعب والدولة، على اعتبار أن فكرة الشائعات التي تعاملت معها الدولة الصينية وشملت الدكتور لي، بتبرير مفاده تجنب الذعر والخوف، أوصلت الأمور في النهاية إلى وضع إنساني خطير تجاوز حدود مدينة ووهان.
والفيروس الذي ولد في عالم أشبه بالقرية، عالم التقنيات والتكنولوجيا، ونشأ في بيئة مختلفة عن تلك التي ظهر فيها الطاعون أو الكوليرا أو الأنفلونزا الإسبانية وغيرها من الأوبئة القاتلة التي حصدت ملايين الأرواح، كسر في ما يبدو مفهوم المجتمع الحضاري المعاصر، وأحيا ثقافة الخوف من الآخر في حدود جسده المجرد، وفرض منطق الحمائية بدل الدولة المنفتحة على الآخر، ضمن السوق العالمية. وهو يتحدى التطور الطبي الكبير، والتفوق العلمي الذي يتباهى به إنسان الحداثة، في زمن ما بعد المجتمع الصناعي، ولحظة ما بعد المنعرج اللغوي.
الفيروس الذي ولد في عالم أشبه بالقرية، كسر في ما يبدو مفهوم المجتمع الحضاري المعاصر، وأحيا ثقافة الخوف من الآخر في حدود جسده المجرد
ضمن رؤيته للأبعاد الأيديولوجية لانتشار كوفيد 19، يتساءل الكاتب السلوفيني سلافوي جيجك، أين تنتهي البيانات وأين تبدأ الأيديولوجيا؟ لماذا الهوس بهذا الوباء الأخير، فالناس يموتون كل يوم بسبب اصابات أخرى؟ يبدو أنه كلما كان عالمنا أكثر ارتباطا ببعضه استطاعت كارثة محلية إطلاق خوف عالمي، وفي نهاية المطاف كارثة، والتكنولوجيا تجعلنا من ناحية أكثر استقلالية عن الطبيعة، ومن ناحية أخرى أكثر تبعية لتقلباتها. ولكن يمكن للأحداث المروعة أن تكون ذات نتائج ايجابية غير متوقعة، والمجتمع العلمي يعمل على إزالة عدم اليقين بشأن الوباء الجديد. ويتطلب الأمر “جرعة إضافية” من الثقة وشعورا متقدما بالتضامن، ومقدارا إضافيا من “حسن النية” تجاه كل الأشياء، التي تم استنفادها بالكامل، بحسب غابرييل ليونغ كبير خبراء الأوبئة في قطاع الصحة العامة في هونغ كونغ.
هناك حاجة إلى تضامن كامل غير مشروط، واستجابة منسقة على المستوى العالمي، هناك منظور تحريري غير متوقع، مخفي داخل هذه الرؤية الكابوسية، التي يشير سلافوي ضمن سياقاتها إلى “الجمال الكئيب” للطرق الفارغة والمراكز الحضرية، التي باتت تشبه الآن “مدن الأشباح” في أكثر من بلد حول العالم. ألا تقدم صورة لعالم غير استهلاكي، مرتاح مع نفسه؟ في حالة انفجار وباء عالمي مثل الذي يحدث الآن، هل ندرك جيدا واقع أن آليات السوق لن تكون قادرة على حمايتنا من الفوضى ومن الجوع؟ هناك من يقترح أن تؤخذ التدابير التي تبدو لمعظمنا “شيوعية” بعين الاعتبار، والتنفيذ على المستوى العالمي، أي تنسيق الإنتاج والتوزيع من خارج إحداثيات السوق. من حاصل مقاصد ثاوية، تؤكد أنه لم يعد من الممكن التسامح اليوم مع هذه القسوة للرأسمالية واقتصاد السوق، الذي سرّع الاتصال الدولي، وحجّم تدفق رؤوس الأموال، ضمن مسارات مُكملة لإجماع واشنطن، المشكل للنظام النيوليبرالي، والذي نص على تحرير قطاعي المال والتجارة، والقضاء على التضخم وخصخصة المنشآت الحكومية، والسماح للأسواق بتحديد الأسعار بشكل حر، وكان هذا الإجماع بمثابة عهد امبراطوري جديد، أقصى الحكومات المحلية، وأصبحت “المصلحة الوطنية” بمثابة الوهم الكبير.
والنظام السياسي المالي بقيادة الرأسمالية المتوحشة، يواصل اضطهاد الفرد، ثم يُحمله أعباء خسائره المالية، ويلقي عليه مسؤولية الأخطاء التي تتهدد المجتمع في الداخل والخارج. ولا يجد الفيلسوف الأمريكي جون زرزان مجالا للتفرقة بين الحضارة بأشكالها السائدة، والخوف الذي يقيم في الذاكرة إقامة دائمة، الحضارة هي الخوف من استعادة الحرية المستلبة، وهي الخوف من الانعتاق من إرهاب الثقافة المستلبة، ومن إرهاب الثقافة المتداولة، والحضارة الحالية، هي اللحظة الحاسمة بين الانتصار الحتمي لرأسمالية ما بعد الحداثة، وأيديولوجيا العولمة على ذاكرة الفرد المواطن، الذي ضاع في وسط تداعيات النظام الدولي الجديد واستسلم للهزيمة وتداعياتها، وهنا تكمن مشروعية التساؤل عما إذا كان لا يزال بمقدور الحضارة أن تنقذ نفسها بنفسها، بعد أن أدار لها الإنسان ظهره ولم يعد معنيا بالانشغال بمشكلاتها. فمساحة الأسر آيلة إلى التوسع بالتدريج، وفي المقابل فإن مساحة الحرية آيلة بدورها إلى التضاؤل بالتدريج. والفرد الخاوي من مضمونه الإنساني هو نسخة طبق الأصل من الحضارة الخاوية من إنسانيتها، التي لم تعد ترى في الإنسان الفرد، سوى إضافة غير نوعية للسلع التي تنتجها. وبعد أن بات وجوده مرتبطا عضويا بوجودها، أعيد تشكيل الفرد في الغرب التكنولوجي، ليتلاءم مع الطبيعة الخرساء للتكنولوجيا، وهي أكثر أهمية وحيوية منه، وهو أقل قيمة وجدوى منها. والنتيجة أنه أصبح ملحقا بها غائبا عن “نبضه الإنساني” مغيبا عن ذاكرة حية ينبغي أن تتدفق في رؤية إلى العالم أكثر اقترابا من طبيعته الانسانية المتحولة.
أصبح الفرد مهيأ في هذا السياق من الاغتراب المتفاقم عن الذات، لمزيد من العزلة داخل ذاته
المهمشة، يهرب من غربة العالم إلى غربته الداخلية الموحشة، من الفراغ إلى الفراغ، يظل يرتحل على نحو يبعث على الجنون، لا مخرج أمامه إلا إحدى المتاهتين متاهة الخارج ومتاهة الداخل. لقد ترتبت التحولات في هيكل الاقتصاد العالمي على إنجازات الثورة العلمية التكنولوجية في موجتها الأحدث، في الأثناء حددت حركات مناهضة العولمة موقفها المبدئي بمعارضة الليبرالية الجديدة السائدة على نطاق العالم، باعتبارها لا يمكن أن تنتج سوى ما نراه حاليا، وهو استقطاب الثروة والتدهور في أحوال شعوب بأكملها، وتنامي النزعة العسكرية والاحتلال واضطهاد أمم بأسرها، وتدهور أحوال العمال والفئات الوسطى والسكان الأصليين، وتفكيك الخصائص الثقافية للجماعات المختلفة، وتدمير البيئة وتسليع الحاجات الانسانية وتنميط الثقافة وتهديد بقاء البشر زمن الأوبئة. وإذا لم يكن بوسعنا البحث عن معنى رمزي عميق لهذه الأحداث، فذلك لأننا نبقى في العمق “سابقين على الحداثة”، نقارب كوننا باعتباره “شريكا” أو “محاورا”. وهو المعنى نفسه الذي دعا في إطاره أمثال بنجامين وايكر وجيمس هيلجندورف، إلى ضرورة التخلص من “ثقافة الموت”، أو البدء في محاولات استعادة الإنسانية القلقة، من خلال مراجعة روحية عميقة للوعي المتكون على إيقاع الألفية الثالثة التي اضطهد في سياقاتها الفرد تحت وطأة النظام السياسي المالي بقيادة الرأسمالية المتوحشة وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة.
كاتب تونسي