صدر بيان ختامي للقمة الثلاثية المصرية الأردنية الفلسطينية يوم 14 أغسطس الحالي، التي عقدت في مدينة العلمين المصرية القريبة من الحدود الليبية. القمة هذه جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس، “لبحث تطورات القضية الفلسطينية في ضوء المستجدات الراهنة في أرض دولة فلسطين المحتلة، والأوضاع الإقليمية والدولية المرتبطة بها”، كما جاء في البيان. وكانت مدينة العلمين قد استقبلت يوم 30 يوليو اجتماعا للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية انتهى على لا شيء، عكس القمة الثلاثية التي توصلت، على الأقل، إلى بيان ختامي، لكن لقاء الفصائل الفلسطينية، من وجهة نظري، كان في منتهى النجاح للرئيسين عباس والسيسي، فقد أثبت عباس لمصر وغير مصر أنه ما زال قادرا على جمع قادة الفصائل كلها (ما عدا الجهاد) خلفه، ما يعني أن شرعيته لا غبار عليها، كما ثبّت الاجتماع أن ورقة فلسطين حصريا في يد النظام المصري، وله الحق الحصري باستخدامها في علاقاته الإسرائيلية الأمريكية.
الجميع يتاجر بالقضية الفلسطينية والضحية دائما هو الشعب الفلسطيني الشجاع الصامد والذي سيسقط كل هذه المؤامرات
الشعب الفلسطيني، الذي تعقد باسمه ومن أجله اللقاءات والقمم والمؤتمرات، لم يجنِ شيئا لا من اجتماع قادة الفصائل، ولا من اجتماع القمة الثلاثي. فالاجتماع الأول خرج بتشكيل لجنة لن يكتب لها النور، والثاني ببيان ختامي سأتناوله بإسهاب. والأمور في فلسطين تسير على عادتها: اقتحامات واعتقالات وهدم مبان، واقتحامات للأقصى، وإعدامات في المدن والقرى، كان آخرها ما جرى في مخيم عقبة جبر بأريحا وأنا أكتب هذا المقال، حيث استشهد الطفل قصي عمر الولجي ابن الستة عشر ربيعا ومحمد ربحي نجوم (25).
وقد أصدرت الفصائل الفلسطينية جميعها بيانات تعزية في الشهيدين، بالإضافة إلى وزارة الخارجية والمغتربين، التي أصرت على تحميل إسرائيل “المسؤولية الكاملة والمباشرة عن هذه الجرائم، التي تأتي ترجمة للتعليمات التي يعطيها المستوى السياسي في دولة الاحتلال للجنود، بما يسهّل عليهم إطلاق النار على المواطنين الفلسطينيين”، مسؤولية كاملة ومباشرة. سترتعد فرائص الكيان من قوة هذا البيان.
بيان القمة الختامي
سأقتبس من البيان المكون من 11 بندا بعض مقاطعه الأولى كي ندرك مدى جدية هذا البيان. أكد القادة على الأولوية للمرجعيات القانونية، وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين ضمن جدول زمني واضح، واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير وتجسيد دولته المستقلة على خطوط الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. الرئيس المصري والملك الأردني يدعمان جهود عباس في الاستمرار في الدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني على جميع الأصعدة، في سبيل استعادة حقوقه وتأمين الحماية الدولية. وأكد القادة أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن ذات الصلة، لتجسيد دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية بما يحقق حل الدولتين المستند إلى القانون الدولي والمبادرة العربية للسلام.
وشدد القادة على وجوب تنفيذ إسرائيل التزاماتها وتعهداتها، بما فيها تلك المُبرمة مع الجانب الفلسطيني، وكذلك الالتزام بمخرجات اجتماعي العقبة وشرم الشيخ، وتحمل مسؤولياتها، ووقف اعتداءاتها وتهدئة الأوضاع على الأرض، تمهيداً لإعادة إحياء مفاوضات السلام. كما شدّد القادة على ضرورة وقف إسرائيل لاقتحاماتها لمدن الضفة الغربية المحتلة، ورفع الحصار عن قطاع غزة، والإفراج عن الأموال الفلسطينية المحتجزة. وأدان القادة استمرار وتصاعد الممارسات الإسرائيلية غير الشرعية، بما فيها جميع الأنشطة الاستيطانية ومصادرة الأراضي الفلسطينية والتهجير القسري وتغيير طابع وهوية مدينة القدس. وأكد القادة ضرورة وقف إرهاب المستوطنين والتيارات المتطرفة. وأدان القادة انتهاك الوضع القانوني والتاريخي القائم في مدينة القدس، وطالبوا بوقف اقتحامات المسجد الأقصى المُبارك. وأكدوا أهمية الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.. وأعلنوا رفضهم الكامل لمحاولات تقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانياً أو مكانياً. وأعرب القادة عن عزمهم الاستمرار في جهودهم مع القوى الدولية الرئيسية والأطراف المُهتمة بالسلام، لإعادة إحياء عملية سلام جادة، ودعوا المجتمع الدولي لدعم تلك الجهود لتحقيق السلام العادل والشامل لرفع الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وشدد القادة على تمسكهم بمبادرة السلام العربية بعناصرها كافة، التي تمثل الطرح الأكثر شمولية لتحقيق السلام العادل والشامل.
مراجعة جادة للبيان تشير إلى استخدام كثير من المفردات المكررة مثل: وأكد، ودعا وطالب وأعرب وأدان وأعلن وشدد. ومن الواضح أن القادة الثلاثة تجنبوا أي كلمة قد يفهم منها أي نوع من التهديد، أو على الأقل اتخاذ خطوات عملية ولو صغيرة جدا. فهذه الأفعال جميعها بلا استثناء موجهة لإسرائيل والمجتمع الدولي. فهم يدعون ويشددون ويدينون ويطالبون، لكن خلا البيان من كلمات سيقوم القادة الثلاثة بخطوات عملية من شأنها أن تؤدي إلى خطوة عملية واحدة، حتى أنهم يطالبون إسرائيل بتنفيذ مخرجات اجتماعي العقبة وشرم الشيخ، اللذين أصلا عقدا من أجل أمن إسرائيل ووأد ظاهرة المقاومة المسلحة التي بدأها الشعب الفلسطيني بعد أن يئس من كل ما يتعلق بالعملية السلمية وتبين لهم مدى خدعة أوسلو والدور الذي أنيط بالسلطة من أجل حماية أمن السلطة القائمة على الاحتلال وليس الشعب الواقع تحت الاحتلال.
إن آخر ما يقلق إسرائيل كلمات المناشدة والإدانة والمطالبة والشجب والدعوة والتذلل ومحاولة الإقناع، فمجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، ما فتئت تطالب وتشجب وتدين، والعرب ملتزمون بالمثل العربي الشهير “أشبعتهم سبـًّا وفازوا بالإبل”. إسرائيل غير معنية بتلك المناشدات فحتى القرار 181 (1947) الذي أعطاها نوعا من الشرعية، نفّذت منه ما يحلو لها وأهملت الجزء الآخر المخصص لقيام دولة فلسطينية. ولو كان هؤلاء القادة جادين بتغيير موازين القوى وبالطرق السلمية دون سلاح وطيران ومدفعية ومسيرات وصواريخ فبإمكانهم اتخاذ بعض الخطوات العملية، مثلا:
– أن يطلقوا حرية التظاهر للجماهير العربية كي يتدفقوا بالملايين إلى الشوارع يطالبون بإنهاء الاحتلال فورا، وإلا فالملايين ستبقى في الشوارع رافعة شعار إنهاء الاحتلال، إلى أن ينتهي فعلا. أؤكد قناعتي أن هذا الكيان المصطنع لو رأي ملايين المصريين والأردنيين في الشوارع بشكل يومي أو أسبوعي ثم تلحق به جماهير لبنان وسوريا والعراق والكويت واليمن وشمال افريقيا لأعاد حساباته فورا. إسرائيل لا تخشى الأنظمة، بل تخشى الجماهير. أتذكرون ما حدث يوم هاجمت الجماهير المصرية “السفارة في العمارة” مساء الجمعة التاسع من سبتمبر 2011 فهرب أكثر من 70 دبلوماسيا من قبو البناية وبعد أن تدخل الرئيس الأمريكي أوباما مع المشير الطنطاوي؟ ألم يهربوا من غزة عام 2005 وفككوا 13 مستوطنة بعد أن يئسوا تماما من السيطرة على القطاع؟
– أن يقف الرئيس المصري والملك الأردني مع الشعب الفلسطيني ومقاومته السلمية الباسلة التي ينص القانون الدولي على شرعيتها. يختارون ما يناسبهم من القانون الدولي لكن يتجاهلون قرارا مهما مثل 3236 (1974) والذي ينص في نقطته الخامسة على حق المقاومة للاحتلال. كيف لأحد أن يأخذ هذا البيان بجدية إذ يطالب بتنفيذ مخرجات العقبة وشرم الشيخ التي تخدم أمن الكيان؟
– أن يعلن الرئيس المصري بالاتفاق مع نظيريه فتح معبر غزة بشكل دائم، ويوقف مهزلة الإذلال الممنهج لأبناء القطاع، وتغريمهم رسوما باهظة للعبور والخروج بالتوافق مع سلطة الأمر الواقع في غزة. فمن يدعو الشعب الفلسطيني للصمود والصلابة لا يقوم بإذلاله وبهذلته على المعابر.
– يعلن القادة الثلاثة بجد أن العلاقات الدبلوماسية بين الأردن ومصر والكيان من جهة، والتنسيق الأمني لسلطة رام الله من جهة أخرى، سيعاد النظر فيها بجدية مع أول اقتحام للمسجد الأقصى. وليتضمن البيان جملة: “إنها فرصة الكيان الأخيرة وقد أعذر من أنذر” وسنرى الفرق في الردود.
الحقيقة التي نعرفها جميعا أن هذا اللقاء لا علاقة له بإسرائيل، ولا بممارساتها ولا باقتحام الأقصى ولا بهدم بيوت الفلسطينيين واقتحام مدنهم ومخيماتهم، بل موقف تضامن للقادة الثلاثة مع بعضهم بعضا أمام تهديد مقبل. إنها رسالة موجهة للدول التي تقوم الآن ببناء تحالف جديد مع الكيان الصهيوني وتسعى لسحب القضية الفلسطينية من دول الطوق المعنية الأولى بها، وتردها إلى دول التطبيع الحالية والمقبل إليها قريبا. الجميع يتاجر بالقضية الفلسطينية والضحية دائما هو الشعب الفلسطيني الشجاع الصامد والذي سيسقط كل هذه المؤامرات.
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي