في الزقاق القديم للحي الذي تسكنه العائلاتُ الميسورة، والعائلات التي تحاول أن تصبح ميسورة لأجل أطفالها وتعليمهم في مدارس جيدة، لها صفوف يمكن القول عنها بأنها مثالية، حيث تتوافر فيها: ستائر، مقاعد، أبواب، ودورة مياه غير صحية بالمرّة. كان هناك بيت مهجور إلى الحد الذي نمَتْ في أعماقه شتّى أنواع الحشائش والزرع، تلك التي تنمو بدون رعايةٍ، وفي أحلك الظروف، وتفرعت منه خرائط للملح وأخرى للطين وهو يشمخ فوق ما تبقى من صلادة الإسمنت البائدة، أما البابُ الخارجيُّ فكان يتكئ على نصف الباب الآخر، بينهما سلسلة والمتبقي من مقدمة الجدار يسند هذا التكوين الهشَّ، ويساعد في تجديد صورة الخوف.. وهناك إلى جوار ذلك البيت، بيت أبي منصور، وهو الرجل الذي كان له الدور الحاسم في إخافة الناس، إذ كلما جاء أحدهم يسأل عن البيت، اســتعان بقصص وحكايا العفاريت والجان والأفاعي، والأصوات التي أقسم هو وغيره من أهالي الزقاق على سماعها.
وذات يوم أقسم صبيٌّ من صِبية الحيّ المتأثرين بهذه الحكايات، وأخبر أحدُ السائلين عن تفاصيل هذا البيت ووجهه يكاد يتمزق من محاولات إقناع هذا الآخر الغريب: إنه وفي أثناء عبوره حوالي الساعة الـ 9 ليلا من أمام هذا البيت، تعرّض رأسُه لضربةِ حصاةٍ تركت وخزًا في كاملِ جسده، وحين أدارَ رقبته المتشنّجة إلى الجانب والخلف قليلا، تعاقبتِ الحصيُّ إلى حيث تجمّد من الرعب. وأضاف الصبيُّ لتأكيد كلامه، بأن هناك فتاة تدعى صبا في عمر يقارب عمره، كانت تلهو رفقة مجموعة من الصِبيةِ والصبياتِ، وحصل بينهم ما يشبه التحدي في دخول البيت، وحين ولجتْ تلك الصبية إلى البيت وعلِقت ثيابُها بالأغصان والنباتات الشوكية الواخزة التي تغزو الأرضية والزوايا الداكنة، وتعرضت لخدوش لاسعة، سمعوا الفتاة تصرخ عدة مرات، ثم انقطع الصوت، فيما هرب الآخرون ممّن كانوا معها.. هبّ بعض الجيران فزعيّن لنجدتها، على الرغم من تردد بعضهم في بداية الأمر، حيث قاموا بإخراجها ورشِّ وجهها بالماء، بعدها وصل أحدُ المسنيّن من أولئك الذين يصلّون في الجامع، ولديه عكازة بلون قهوائي ولحية بيضاء ممتلئة كالقطن، ووضع يده على رأس الفتاة وبدأ يتمتم بالآيات، والتسابيح، ثم بصق في فمها بعدما انتهى من تلك التلاوات. وما أن أكمل الصبي حديثه حتى تقلبت معالمُ الرجل وقُبضت نفسه فقد تأكّد مما سمعه قبل مجيئه.
عانت صبا الفتاة الأحلى بين الفتيات لفترة زمنية طويلة من صدمةٍ نفسية جراء ما حدث، لكنّها كبُرت ودخلتِ الجامعة وأعجب بها أحد زملائها وأحبها وباح لها بذلك الحب، ثم تزوجت وأنجبت، والجيران شاهدوا صبا الأم والزوجة مرات عديدة، وهي تزور بيت أهلها، إلا أن أبا منصور كان مصرّا على أن صبا فتاة مجنونة، تلبستها روح شريرة حينما دخلت البيت المهجور، ويروي حكاية صبا ويضيف على الحكاية في كل مرة حسب حاجته الى إقناع من يود شراء البيت لإخافته، إذ يبدو أنه كان ينتظر فرصةً ملائمةً لشراء البيت، وضمّه إلى بيته الذي يجاور البيت المهجور، ولا يفصل بينهما سوى جدار.
حدثت بسبب تلك السرديات التي اتخذت من صبا شخصيتها البطلة، تحذيرات وشكاوى وجلسات عشائرية بين الطرفين، لفضّ الحكاية عن صبا، صبا المجنونة صبا الخبلة، صبا خريجة كلية الهندسة المعماري.
صبا حينما تمشي في زقاق بيت أهلها، تنظر إلى عيون الناس وتحاياهم الطبيعية إلى حد ما، ولو سألنا أحدا لم يتعرض إلى ما تعرضت إليه صبا لقال أمرا مماثلا، إن كل شيء في حدوده الطبيعية. لكنّها وبينما تمر بينهم، لا ترى غير ألقابها السخية على شكل كلماتٍ منقوشة تخرج من ابتساماتهم العادية، وحركاتهم الشائعة وكلماتهم البعيدة عنها، وهي تدور تدور ثم تعود لتلتصق بها. فإذا صاحت أمٌّ على أولادها في الشارع أثناء مرورها، ظنّت أن هناك رسالة مشفّرة إليها، وإذا مرّ شابان يتضاحكان وينظران إليها، أحسّت بأنها محور حديثهما، وإذا سمعت النساء المسنّات وهنَّ يقرأن التعاويذ، ويهززن خرز المسبحة، فإنها تذوي من الخجل وترتعد عظامها وتفقد بريق وجهها، واتزان مشيتها، وتتمنى لو أنها تختفي عن أنظار الجميع إلى كوكب بعيد لا يعرفها أحد، لتبدأ من جديد.
بعد خمس سنوات مات أبو منصور، وكبُر الصِبيةُ الذين هم أكبر جمهور لهذه الحكايا، وأهمُّ ناقل لها عبر الأزقة، بل وعنصر من عناصر الحكي العابثة خارج النص ووسيلة انتشارها الضوئية، وحفظها في ذاكرات الأطفال الآخرين، وأيضا خـــلال هــــذه السنوات، كبُرَ أبناءُ صبا وعرفوا من خلال صبية آخرين، أن أمهم خبلة، وأنها في الليل تخرج من المنزل، لتسرق الأطفال وتخيف العوائل وتنام في بيت مهجور أو خرِبة، وأنها لن تسمح لأحد بأن يسكن في البيت المهجور. حتى أن أحد العجائز استنجد بواحد من صغار الحيّ هو صديق لأحد أبناء صبا، كي يقنع أمّه بترك البيت المهجور، وبقي الصبيّ ابن صبا في تلك اللحظة متصنمًا لا يستطيع دماغه استيعاب الكلام كما يراد له.
صبا وهي على فراش الموت وحولها أولادها وزوجاتهم وأحفادها كانت وصيتها واحدة لا غير، أن يستصلحوا البيت المهجور ويكسروا لعنة الحكايا الأبدية، ويثبتوا للناس أنها لم تكن خبلة مثلما أُشيع عنها، كما أنها ليست صبا التي يتحدثون عنها، صديقتها هي من تعرضت لتلك الحادثة، ولسبب مجهول لا يعلمه أحد، ظنَّ الجميع أنها هي والتصقت بها. فقال أكبر أبنائها، وهو من المهتمّين بالأدب والكتابة ودراسة الأساطير، على الرغم من أنه يمتهن المحاماة: إنه الحكّاء يا أمي، وحده من استطاع جعل امرأة عاقلة مثلك، امرأة مجنونة. وباستطاعته أن يفعل العكس. ثم صوّب نظرتين حادتين ثاقبتين نحوي، كمن يحذرني من العبث أكثر بمصير أمّه.
٭ كاتب عراقي