تقديم:
يقترح الكاتب الفرنسي جوزي لينزيني قراءة استكشافية عميقة للصلات التي جمعت بين الكاتب الفرنسي البير كامو 1913- 1960 والجزائر. وغير خاف في هذا السياق أن مبدع «الوباء» و»الغريب» والحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1957 ولد في الجزائر العاصمة عام 1913. ويشدد الكاتب الذي عمل أستاذا في معهد الصحافة والاتصال في مدينة مارسيليا، على سمة الالتباس التي ميزت هذه الصلات من خلال التركيز على صمت الكاتب خلال حرب الاستقلال وما رافقها من عنف دموي، ودفاعه عن الخصوصية «الثقافية» لمنطقة القبائل، في إشارة إلى تحقيقه الشهير عام 1939. للكاتب أعمال عدة عن البير كامو ونذكر من بينها «جزائر البير كامو» 1987 و«الأيام الأخيرة في حياة البير كامو» 2009.
النص:
ما أن يحل يوم الخميس وتسمح حالة الطقس وأيضا الجدة، فإن الفتى البير يغادر المنزل الصامت في الحي البائس ويقصد البحر بقصد السباحة. يقع المنزل في زنقة ليون الضاجة بالصخب والناس والمتفرعة عن حي بلكور الشعبي.
الشقة ضيقة ويحتل غرفها الثلاث خمسة أشخاص. الجدة وأصغر أبنائها علاوة على السيدة كاترين كامو والبير كامو وشقيقه لوسيان. ليس ثمة ماء صالح للشرب أو كهرباء أو تدفئة أو جهاز راديو. وتتجمد الحياة في انتظار المساء. ويتناقض هذا الكون الصامت مع الخارج، حيث الصخب الدائم، وحيث يختلط صراخ الأطفال وهتاف الرجال والضجيج المتخلف عن مرور العربات والترام.
يصعد الفتى زنقة ليون، التي ينحسر صخبها في حدود اقترابها التدريجي من حديقة حمة. وهناك أدراج كبيرة تنفتح على عالم آخر لغابة محكمة التنظيم يقودك إلى البحر. وسرعان ما يخلع ثيابه ويرتمي في البحر ويرتب إيقاع تنفسه وحركة جسده على إيقاع الأمواج التي يبتلعها الرمل. يسبح البير حتى الإجهاد ثم يخرج لكي ينطرح منهكا على الشاطئ. جسد موهوب للشمس، ويحدث صريرا بفعل احتكاكه بالرمل. عيناه مغمضتان وقد اعشاهما النور الأحمر والملح، وهو يترقب في غمرة طنين هذا الصمت الآخر المحكوم بإيقاع تدفق الأمواج مثل رقاص الساعة. هنا تتجلى مأساة عالم لا مقاييس له بمحاذاة الرمل. فبجوار الآثار التي خلفتها خطواته كانت مجموعة من الخنافس تجهد في التسلق وهي تدفع قطعة من براز الماعز وكرة من الفضلات. كانت تجهد في الدفع ولا تني تنزلق وتعاود السقوط على حواف الرمل ثم معاودة الصعود، دون هوادة. كانت هذه الحشرات الضخمة قد عقدت العزم على الصعود إلى القمة ولم تلبث أن استشرفت غايتها.
صمت الأم
سوف يذكر كامو غالبا وباطراد كيف كانت مرحلة طفولته حاسمة في حياته بوصفه رجلا وفي مسيرته الأدبية. ولم يكن يتردد حتى وهو في أقصى ما ارتاده من ضفاف عن العودة إلى عالم الصمت الذي خبره. كان يعيد الوصل في غمرة ذلك بالبير الشاب الذي كان مقلا في الحديث، والذي لم يكن يتواصل إلا بكلمات قليلة مع أمه التي كانت شبه أمية، والتي كانت تعاني من عسر في الحديث ينضاف إلى شكل من الحياء كان كثير الشيوع في هذه الأوساط المتواضعة.
البحر هنا مثل مرآة عجيبة. تنين أو وعد ويفصح عن حضوره عند أي منعطف ويعانق تلالها وينفتح على السماء مثل جرح. وشأن هذا الضغط الذي شل قدرة حارس المرمى الشاب على التنفس. وسيكون لزاما عليه منذ تلك اللحظة أن يعيش في جوار لصيق بهذا «النفس» الموزون والثمين. وبعد هذا البرد الذي يعزى سببه إلى تعرض مفرط للحرارة، يتعلق الأمر بالأعراض الأولى لداء السل الذي سوف يعاني منه كامو منذ سن السابعة عشرة وإلى نهاية حياته.
سوف ينشر كامو ابتداء من عام 1932أولى مقالاته في مجلة لوسود «الجنوب» التي سيحولها مديرها جان غرونيي إلى فضاء يحتضن أبحاث أنجب طلبته.
سوف ينضم كامو بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ إلى الحزب الشيوعي، لكنه لم يلبث فيه إلا ثلاثة أشهر بسبب استيائه من انعدام المساواة في ما يهم وضعية الأوروبيين والجزائريين. وستدفعه الفوارق الموجودة بين الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الشعب الجزائري، الذي كان يطالب باستقلال الجزائر إلى تقديم استقالته. وقد مثّل ذلك تجربته الوحيدة في النضال في إطار حزب سياسي وسيدعم هذا الفشل فكرته القاضية بالنضال من خلال النصوص والفعل والمسرح، وفي سياق من رفض للأيديولوجيات المرصوصة بعناية وانشغال كامل بالآخر.
سوف يضطلع البير كامو في هذه الفترة بإدارة «دار الثقافة» في الجزائر العاصمة. وكانت تحدوه في هذا السياق إرادة التوفيق والملائمة بين الحضارة الفرنسية وحضارة السكان الأصليين. وقد مثل ذلك موضوع المحاضرة التي ألقاها في 8 فبراير/شباط من عام 1937 بمناسبة افتتاح دار الثقافة، ولما يتجاوز من العمر حينها أربعة وعشرين عاما. وقد أفصح في سياقها عن كل ما يتوق إليه: أن تناضل من أجل قضية جهوية متوسطية يمكن أن يبدو في الحقيقة بمثابة إعادة تأسيس نزعة تقليدية لا طائل منها ولا مستقبل لها، أو أيضا مثل الانتشاء بتفوق ثقافة على أخرى. وإذا تناولنا الفاشستية بشكل معكوس، فإن الامر يبدو أشبه بحمل الشعوب اللاتينية على أن تناصب شعوب الشمال العداء. ثمة سوء تفاهم دائم.
خبر كامو الذي آمن بالأخوة الإنسانية هذا الانحراف، وقد قدم باطراد الدلائل المضادة لهذا الاتهام بدفاعه عن السكان الأصليين. وقد أتى هذا الصنيع من موقعه باعتباره صحافيا أكثر من منزلته بوصفه كاتبا. وحين يقول في معرض محاضرته عام 1937: ثمة حوض البحر الأبيض المتوسط الذي يصل بين عشرات البلدان.
ويكمن الخطأ كله في خلطنا بين المتوسطية واللاتينية، وإننا نضع في روما ما بدأ في أثينا. ولا يمكن أن نتحدث في ما يهمنا إلا عن وطنية الشمس. ويتابع بالحماسة ذاتها: «التقليد نوع من الماضي الذي يشوه الحاضر والبحر الأبيض المتوسط الذي يحيط بنا يمثل على العكس من ذلك بلادا حية تضج باللعب والابتسامات. وقد أخذته هذه الحماسة إلى درجة حملته فيها على أن ينسى المأساة المتوسطية التي ينهض عليها التاريخ. بيد أنه سيعبر في معرض هذه المحاضرة عن رؤى وهواجس، سوف تأخذ شكل محاولة لدرء مخاطر المستقبل: حكمت النزعة الوطنية على نفسها، من خلال ما أتته من أفعال. وتبدو «النزعات الوطنية» عبر التاريخ بوصفها علامات على الانحطاط. وعندما يتداعى البناء الكبير للامبراطورية الرومانية، وعندما تتفتت وحدته الروحانية التي كانت جهات عدة ومختلفة تستمد منها مبرر عيشها، فإن النزعات الوطنية تفصح عن حضورها في لحظة الانحطاط هذه. ومنذ تلك اللحظة لم يعد في المقدور تصريف المستقبل في روما أو أثينا، وإنما التعبير عن إيمان أسطوري بأناجيل الحجر والسماء والماء، التي تقوم بتمجيد التاريخ الرائع لتيبازا، التي يعتبر البير كامو أن النظر فيها يعادل الاعتقاد والإيمان. بيد أن هذه المتعة والافتتان بالزمن المقبل ليسا كافيين؛ وهو الرأي الذي اعتنقه العديد من الجزائريين الآخرين مثل كاتب ياسين. وحين سألته عن شعوره حيال البير كامو فإنني توصلت بجوابه من خلال رسالة مقتضبة ذات كتابة مشروخة: بعض صفحات كتبه رائعة جدا، لكن الجزائريين غائبون، إن لم أقل مغيبون مثلما هو الشأن في رواية «الغريب». يكفي في هذا السياق مقارنته بفلكنر الذي كان يتكلم لهجة السود في جنوب الولايات المتحدة وتهيمن بعض شخصيات رواياته، وتمثل لذلك بكريسماس في رواية «نور غشت» على كل أعماله، وإن كان يحتفظ أحيانا بنبرة عنصرية يعمد كامو إلى إخفائها. هذا هو الفرق بين الكاتب و«الأخلاقي». يبدو «الحكم» متسما بالشطط، خصوصا في العبارتين الأخيرتين لكاتب ياسين.
خبر كامو الذي آمن بالأخوة الإنسانية هذا الانحراف، وقد قدم باطراد الدلائل المضادة لهذا الاتهام بدفاعه عن السكان الأصليين. وقد أتى هذا الصنيع من موقعه باعتباره صحافيا أكثر من منزلته بوصفه كاتبا. وحين يقول في معرض محاضرته عام 1937: ثمة حوض البحر الأبيض المتوسط الذي يصل بين عشرات البلدان. الرجال الذين يصرخون في المقاهي الإسبانية الضاجة بالغناء وأولئك الذين يتسكعون في موانئ جنوة أو أرصفة مارسيليا، وهذا العرق البشري القوي والمثير للفضول الذي يعيش على سواحلنا، قد انبثق بدوره من الأسرة ذاتها، فإننا لا نندهش من غياب الجزائري. بيد أنه مباشرة خلف زنقة ليون التي عاش فيها كامو بداية علاقته بالبحر يمتد أسفل التلة أكبر حي للصفيح في الجزائر العاصمة. كان الصحافي كامو يدافع عن إخوته في الإنسانية الذين يتجاهلهم الاستعمار في سياق هوسه بتقدم مفرط في غربيته وأوروبيته.
تمثل حرب الاستقلال (1954-1962) التي وسمتها فرنسا باطراد كونها تمردا، شرخا، وعلى الرغم من جهله بما آلت إليه هذه الحرب، فإن البير كامو سوف يظل بحارا وحيدا ومتضامنا؛ وهو ما مثل القطيعة مع تيبازا الفضاء الساحر الذي ظل موصولا بكامو وأعماله. كان هذا الموقع الأثري الاستثنائي الرابع على مسافة سبعين كلم شرق الجزائر العاصمة مرفأ فينيقيا تحول إلى مستعمرة لاتينية في القرن الأول الميلادي ثم رومانية في القرن الثاني.
يفضل البير كامو في معرض افتتانه بجمال هذا الفضاء الذي تجتمع فيه الطبيعة والتاريخ والأساطير ثلاثة عناصر حيوية لا يمكن الفصل بينها، حسب وجهة نظره. والمدينة وإن كانت مسكونة بالآلهة ليست نفيا، أو إلغاء للإسلام، الذي لم يتمكن كامو والآخرون من معاصريه من إدراك قوته وإشعاعه. وسوف يستقر منذ تلك اللحظة في منفاه الباطني بقوة وبهاء وشهوانية. لم تعد أطلال تيبازا المغمورة بالورود والروائح غير حجارة صماء. وبدا جيدا أن الشاب كامو الباحث عن المطلق والمستند إلى الماضي قد استعاض عن التاريخ بمخزون من الأساطير الذي كان رغم عدم استجابته لما كان يأمله أشبه بالخرافات.
حين أنجز البير كامو عام 1939 تحقيقه الكبير والمثير «بوس منطقة القبايل» فقد وسم مقالته الأولى بـ»أسمال اليونان». وقد شكل ذلك مماثلة فريدة، وإن كان في مقدورنا أن نلمس من خلالها انشغالا بتأكيد نبل وسمو هذا الشعب حتى في طور اندحاره. وربما مثل ذلك رغبة في رفض وطرح الفكرة الرائجة في هذه المنطقة والتي مفادها أن شعب القبايل ينحدر من الرومان، ما شجع الحملات التبشيرية للكنيسة المضادة للإسلام والعروبة. ومن ثم كانت الإحالات إلى اليونان وروما أخطاء فريدة. وكان على الحرب أن تندلع ومعها جراح الماضي كي يتحقق لألبير كامو المتوسطي الإدراك الجيد بأن انتفاضات هذه الأرض كانت أقل شعرية من تلك التي كان يضفيها على جبل شنوا الذي كان يطل على تيبازا انطلاقا من الضفة الأخرى للحوض المتوسطي الذي كان أكثر اتساعا مما كان يبدو عليه.
كانت ثمة دائما تلك العودة إلى الأرض الأولى، وهذه المدينة الساحرة بشوارعها الطويلة المطل على البحر ومرتفعاتها المغمورة بالنور والروائح العطرة. الجزائر المختالة من خلف حجابها الأبيض والتي تنفتح على السماء مثل فم أو جرح مفغور.