لا مناص من التأكيد على أنَّ التاريخ الرسمي الذي وصل إلينا لم يوثق لكل التفاصيل الحياتية التي عاشتها البشرية، والسبب أنه عني بما هو مركزي غالب وقوي مهيمن، بينما غيَّب ما هو ثانوي تابع وضعيف وواهن. وهكذا ذكر التاريخ وقائع وأهمل أخرى. فما السبيل إذن لتحصيل ما هو مغيب واستحضار ما هو هامشي الذي تُرك بقصد مسبق لينطمر إلى الأبد؟
الجواب أنَّ إحدى وسائل استحضار الهامشي هو السرد كسبيل به يكمل محكي التاريخ كقصة ورواية وسيرة ومذكرات التاريخ الرسمي، مبئرا ما هو سطحي لينظر إليه غائصا في أعماقه، مالئا الفجوات والفراغات التي تركت كمسكوتات عنها كثيرة ومغيبة مطمورة، ومهملة تم اخفاؤها وسترها وحجبها عن الظهور. وبالسّرد يصبح المتخيل مقصد الكاتب وأداته التي بها يعيد توجيه المحرك التاريخي توجيها جديدا مخلصا إياه من السياسة وأيديولوجيتها اللتين كتب بهما، متغاضيا عن السلطة واستراتيجياتها، محركا الراكد ومسكِّنا المتحرك لتفحصه، مسترجعا الماضي وطبيعته الهامدة بفاعلية متحركة، مستنهضا إياه استنهاضا كليا، بالمفهوم الهيغلي للكلية التي تعني الامتداد الواسع في فلسفة التاريخ. وهذه الكلية لها صلة بمونتسكيو ورؤيته الفلسفية، التي جعلته يفكر بإمكانية وجود محرك للتاريخ.
وصحيح أن له موقفا يناهض السياسة بالأشكال الثلاثة للحكومات (الجمهورية ـ الملكية ـ الاستبدادية) لأنها تتضاد مع حركة التاريخ التي هي الشعب «الذي يكون كثير الحركة أو قليلها على الدوام». وهذا الرأي إنما هو ارتهان أيديولوجي يوجه محرك التاريخ وجهة تحصر التفكير بين السلطة والشعب، بمواضعات النظر العلمي المجرد من الهوى والاندفاع؛ فضلا عن التمسك بالتفكير المتعالي على ما هو تقليدي في النظر للتاريخ. وقد تجاوزت المنظورات التاريخية ما بعد الحداثية هذه الرؤى، التي تلاشت مع تلاشي مفاهيم علمية التاريخ وموثوقيته، وحتمية نهايته مما ذهب إليه فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ».
ونذكر من المنظورات ما بعد الحداثية للتاريخ، منظور فريد سباير لما سماه (التاريخ الكبير)، وقصد به مقاربة للتاريخ تضع التاريخ البشري في سياق التاريخ الكوني، من بداية الكون حتى الحياة الراهنة على الأرض. والأهم من ذلك ما اقترحه سباير حول إعادة بناء التاريخ بطريقة مقنعة إلى حد معقول بأمرين: 1) كشف حقيقة ما حدث في البيانات منذ نشأتها بما في ذلك اكتشافها بواسطة البشر. 2) كشف حقيقة ما تخبرنا به هذه البيانات حول الماضي.
ونلحظ إشارة مهمة عند سباير إلى البيانات، وأنها ليست هي الماضي حقيقة، كونها لم تنقل لنا كل الذي حدث، بمعنى أنَّ الماضي ليس هو التاريخ، وأن التاريخ هو الماضي والحاضر معا، قائلا:» إن كل دراسة عن الحاضر تصبح بالضرورة إعادة بناء للماضي»، مؤكدا أننا لا نعرف أي شيء حول الأحداث التي تركت آثارا بالفعل، ولم يتم اكتشافها أو تفسيرها، ولعل فيها الجزء الأكبر مما حدث في التاريخ، ورغم ذلك فإننا لن نعرفه أبدا، ومن ثم يصبح ممكنا معاودة النظر في البيانات المؤرشفة من أجل صياغة كتابة الماضي من جديد.
وما التفاتته إلى السّرد إلا دليل أكيد على قدرته على أداء مهمة إعادة كتابة الماضي وتفسير خفايا التاريخ الرسمي، مشيرا إلى أن هناك فقط قلة من الأكاديميين الذين حاولوا صياغة كل هذه القصص في حكاية تاريخية وحيدة متماسكة، لتفسير كيف أننا بالإضافة إلى كل شيء حولنا أصبحنا على ما نحن عليه الآن. ولهذا جمع سباير بين التخييل متمثلا بثقافة المعلومات المخزنة في خلايا المخ، والوقائعي متمثلا بسجلات بشرية من أنواع مختلفة. فأمّا الثقافة فليس لتفسيرها العلمي سوى التفسير الجينالوجي، الذي لا يعطينا تعريفا غير ملتبس للكيفية التي بها تنتقل لبنات المعلومات الثقافية من جيل إلى جيل.
تنبه جيل دولوز أيضا إلى تأثير الوثيقة وصمت التاريخ عنها، ولماذا ركّز التاريخ على ما هو مليء بالأخبار أو ما هو خلو منها، مدركا أنَّ هناك بعدا جوهريا لا يزال منقوصا في جزء كبير من البحث التاريخي، وهو المتخيل.
وترى باتلاجين أن الدراسة التي تجمع بين التاريخ والمتخيل ستتصدى لإشكالية دراسة الفلكلور كأعياد وطقوس وحكايات وخرافات. وفي إطار دراستها للمتخيل التاريخي تجد أن تفسير أيتوس أي الحياة وتاناتوس أي الموت ليس بالسهل على المؤرخ، وتتساءل هل تاريخ المتخيل هو إرهاب للمؤرخ بوصفه لعبة المخيال مع الذاكرة.
وإذا كان ميشيل فوكو قد درس تحت باب السادية والجنون مع اقتراحه للتاريخ النفسي وتاريخ الأحلام؛ فإن أيفلين ترى فيه وفي غيره من الدراسات التاريخية حول المتخيل في الجملة مثالا طيبا لإعادة توزيع الأوراق بين التاريخ والعلوم الاجتماعية من ناحية وبين التاريخ والتواريخ الأدبية أو الجميلة من ناحية أخرى. وتنبه جيل دولوز أيضا إلى تأثير الوثيقة وصمت التاريخ عنها، ولماذا ركّز التاريخ على ما هو مليء بالأخبار أو ما هو خلو منها، مدركا أنَّ هناك بعدا جوهريا لا يزال منقوصا في جزء كبير من البحث التاريخي، وهو المتخيل أو ما سماه (التاريخ المتخيل)، لكنه اختلف عن باتلاجين كونه قدم صيغة جديدة بها يمكن صناعة تاريخ كلي جديد ومتخيل من خلال:
أولا ـ إعادة النظر في مفهوم الزمن، وتحطيم فكرة الزمن الواحد المتجانس الخطي، والإيمان بتعدد الأزمنة الاجتماعية.
وثانيا ـ التقدم نحو إدماج النص الأدبي بالأثر الفني في تفسير التاريخ.
وهذه الطروحات عن التاريخ تؤكد إمكانية تلاقي الأدب بالتاريخ عبر رؤى نقدية انفتاحية، تبدأ بالنقد البنيوي وتمر بنقد استجابة القارئ والتلقي وتنتهي عند النقد الثقافي.
وبهذا تكون المرحلة ما بعد الحداثية بمدارسها المختلفة وأهمها المدرسة الفرنسية وبنزعتها التجريبية ومنهجياتها المحايثة وغير المحايثة وأهمها المنهجية الأريكولوجية، قد بلغت القمة في عدم الاعتراف بالتاريخ الفردي الرسمي الذي لم يعد علما له ثوابته، ولا فلسفة لها مبدئياتها؛ وإنما هو كل ذلك مضافا إليه التخييل الذي يعنى بالتفاصيل منتميا إلى عالم التخمين واللايقين حيث المتغير التاريخي ينبجس في خضم الثابت التاريخي. وبممازجة الرسمية بالشعبية والأحادية بالجماعية والمراكز بالأطراف تتفكك مركزية التاريخ الرسمي، وتتحول إلى مركزيات صغرى تعترف بالواقعي المندمج بالمتخيل، ليغدو التاريخ الرسمي مسرودا كبيرا فيه تتزعزع فرضية المضي في الزمان، كما تختل فاعلية المؤرخ في النقل لتفاصيل الحدث المسرود مكانا وزمانا، ليصبح الإنسان/ الناس (أفرادا وجماعات) الفاعل الكوني وأصل التطور التاريخي القادر على التحكم بمجمل تاريخه. وتأسيسا على افتراضات بناء تواريخ جديدة، يصبح بالإمكان الحديث عن تاريخ داخل تاريخنا العربي الإسلامي، فيه نجد ما سُطح أو هُمش أو أهمل، مدققين النظر في الأعماق منتبهين إلى الهوامش ومركزين على المتروك والمنسي، وقوفا على الأسباب ووصولا إلى النتائج، التي هي في مجموعها بمثابة تاريخ سنـــصفه بأنه (تاريخ جماعي Collective history)، لأنه يجمع المنسي بالمذكور والمركزي بالهامشي والمهيمن بالتابع.
٭ كاتبة عراقية