ليس غريبا أن يكون اهتمام الفيلسوف هو نفسه اهتمام الروائي، وذلك حين يكون موضوعهما التاريخ، ولعل السبب أن الفلسفة لها أهلها كتابا ومفكرين وقراء نخبويين مثلما أن الرواية لها مبدعوها وقراؤها المتطلعون للجمال والإبداع، لذا يتلاقى عمل الروائي بعمل الفيلسوف، مع انهما يختلفان في الأدوات والوظائف والتوجهات والاهتمامات. وقد يكون شأن هذا التلاقي غير معتاد عند من هو متموضع في الحداثة، منتم إليها بوعي، متمظهر في قوالبها وموضوعاتها عن قصد ودراية؛ بيد أن هذا التلاقي سيغدو معتادا وأليفا لمن استطاع أن ينفض أساسات التقولب الحداثية ويتجه بثقة واقتدار مؤازرا ما بعد الحداثة مدركا أن هذه المؤازرة والانتمائية مسألة لا مفر منها لأن هناك جدوى فكرية وابستمولوجية من ورائها.
صحيح أن ما بعد الحداثة تفترق عن الحداثة في كونها لا أساسات دوغمائية ترتكز عليها ولا تموضعات أساسية بيد أن ذلك هو عنوانها والمعنون فيها اعني انها جاءت ضد الاساسات والتقولبات والتمظهرات حريصة على الا تتبدى في رداء محدد او كيان معين وهذا ما يجعلها حرة مانحا اياها مقومات الاستمرار والتجدد بلا نهائية مع مشاعية في الاطلاق والتبلور وهكذا بزغت حقبها تتبارى في اللامألوفية باحثة عن اللامفكر فيه واللامشاع مما هو مهمش أو منتهك أو مغبون أو متدارى أو مسحوق ومعدوم.
وفي التاريخ الرسمي أو السائد يتم تغليب الآحاد والتركيز على الأنفار، مضفيًا عليهم المجد وجلال الشأن حقًا وباطلًا، على حساب القاعدة الجماعية التي صنعها لهم العموم الشعبي، وهذا الإغفال للمجموع العام يعدّه جان بودريار بمثابة إبادة لما هو واقعي.
والأحادية في التاريخ الرسمي ليست متحققة في تخصيص أناس بالتوثيق حسب؛ بل هي متحققة في المنظور الذي ينظر للمركزيين الذين هم عادة آحاد أنفار كالرؤوساء والامراء والقادة والخلفاء والاوصياء، بينما يغض الطرف عن الهامشيين الذين هم عادة بالالاف من المرؤوسين والتابعين والمأمورين، ومن ثم يغدو طبيعيًا جدًا تبني المؤرخ لوجهة نظر تبرئ المركز وهو يوثق لمذبحة او محرقة أو حرب أو كارثة أو إبادة، رافعًا ربما المسؤولية عن الأنفار المسببين لها، مزوقا صورتهم، متلاعبًا بالأسباب التي أقتضت منهم أن يمارسوا الإبادة ضد جنسهم. وهذا ما يبحث عنه التاريخ الجماعي، فهو في الوقت الذي يؤرخ للعظماء والمنتصرين، فإنه لا ينسى العموم الجماهيري الذي له دور في صناعة العظمة للآحاد على مرِّ الأزمنة واختلاف الأمكنة.
وما يريده ( التاريخ الجماعي) هو التذكير بالصفة العددية للبشر الذين تجنب التاريخ المدون ذكرهم لأنهم ليسوا مقصده توثيقًا وأرشفة، من هنا يأتي التاريخ الجماعي موجها اهتمامه نحو هذا المجموع جاعلا منه مقصد عمله وبؤرة توثيقاته، مركزًا عليه بالتفاصيل الدقيقة بما فيها الأسماء والصفات والأعمال والمظاهر والاتجاهات..الخ. وعنده هذا المجموع العام متساوٍ مع الآحاد سواء في خصوصياته وعمومياته، أو في جلال شأنه أو ضعته وفي انتصاره أو انكساره وفي صموده أو انهزامه وفي أثره الفاعل أو اللافاعل في عجلة التاريخ. وأمثلة هذا المجموع شعوب ثارت وانتفضت، لكن التاريخ الرسمي ازدرى دورها واكتفى بالتوثيق لقادتها، وأمم انمحت في سبيل أسيادها وجماعات عانت الأهوال وقاست الشدائد تعذيبا وقتلا وتشريدا، على يد أفراد ذكرهم التاريخ كجلادين وقتلة، لكنه تغافل عن المجلودين المقتولين، أو الضحايا الذين مورست ضدهم سياسات إبادة جماعية وانتهاكات لا أخلاقية ذكرها التاريخ الرسمي بالعموم والإجمال وليس بالتخصيص والتفصيل، مارا عليها بنظر أحادي منتقيًا اللُمام منها.
وإذا كان التاريخ الرسمي أحادي النظر، فإن التاريخ الجماعي متعدد المنظورات، لأنه يرى المجموع بأكثر من وجهة نظر، فقد يرى المجموع قوة محركة للآحاد الذين مجّدهم التاريخ الرسمي، وقد يراه ضعيف الحيلة منزوع العدة والعتاد، مخذولا دومًا من قبل الآحاد المتسلطين، واقعا تحت نير قهرهم وبطش قوتهم، مقموعا ظلما وبهتانا، لكي لا ينازع هذا المجموعُ الآحادَ على مصالحهم ولتظل الغلبة والقوة لهؤلاء الأنفار.
الغاية التي يسعى إليها التاريخ الجماعي إنما هي احتواء المهمشين الذين جُردوا من حقهم في التأرخة، محاولًا دمجهم بالمركزيين، ملتقطًا دقائق الزمن الآني الذي عاشوه، بشهادات حية عن الظلم الذي تحملوه والاضطهاد الذي كابدوه.
ولهذا التعدد في المنظورات صور شتى بها يستطيع التاريخ الجماعي الكشف عن الهوامش، نابشًا في مقابر الوثائق المطمورة ومهملات التاريخ المتروكة والمستودعة بعيدًا عن الأنظار، والتي فيها يمكن تتبع آثار الجرائم واسماء الضحايا وعناوين الأماكن، وتوقيتات أزمان ومخططات ودسائس، وغير ذلك كثير من المستودعات التي بها نستدل على التاريخ الجماعي للمهمشين الذين لم يترك التاريخ المدون لهم ذكرًا يدلُّ عليهم ويبينّ حجم الاضطهاد الذي مورس ضدهم، حتى نهبت ثرواتهم وانتهكت كراماتهم واستلبت ممتلكاتهم واستبيحت حرماتهم واستحوذ على وجودهم لغة وتاريخًا ودينا ونسالة.. والسؤال أين يمكننا أن نجد تمثيلات التاريخ الجماعي؟
الجواب نجده في الثورات التي قادتها الشعوب المتحررة، ولم يذكر التاريخ منها سوى بضع أفراد صعدوا على أكتاف الشعوب، فدخلوا التاريخ بينما ظلت الأكتاف بلا توثيق لانجازاتها ولا أرشفة لعطائها. ونجده أيضا في المحارق التي استطاع القوي القليل أن يبيد الضعيف الكثير لاسباب شتى بعضها عقائدية، بدءًا من محرقة نمرود إلى محرقة الهولوكوست وبعضها الاخر اسباب عرقية كتصفية الهنود الحمر واضطهاد الأرمن، وبعضها استيطانية كاجتثاث الاستراليين الأصليين واقتلاع العرب من أرضهم فلسطين، وبعضها ثقافية كاحلال لغة محل اخرى او تذويب هوية في اخرى وهلم جرا.
وكذلك نجد التاريخ الجماعي في عمليات التهجير والنزوح والاستيطان التي يكون الضحايا فيها دوما هم المجموع الشعبي، الذي لا يؤرخ لمعاناته غير قليل من الشذرات والنتف. وقد نجده في الجيوش التي لا طائل لها وهي تشتبك في حروب ليس لها منها نصيب في التاريخ؛ بل النصيب كله للقادة وليس للجنود من المحرومين والمظلومين والمأمورين والمغصوب عليهم القتال اشتباكا ودفاعا ومواجهة.
وكذلك نجد التاريخ الجماعي في هجرات تدمر مدنًا وتعمر أخرى، يدفع ثمنها العموم من النساء والأطفال والعجزة، وكوارث تلتهم الآلاف من البشر، وأمراض تبيد شرائح عريضة منهم. ونجده أيضا في أمم عاشت حياتها كفافًا في ظل إمبراطور أو ملك او أمير أو سلطان يعيش وحاشيته ترفًا وبذخًا لا حدود له. والغاية التي يسعى إليها التاريخ الجماعي إنما هي احتواء المهمشين الذين جُردوا من حقهم في التأرخة، محاولًا دمجهم بالمركزيين، ملتقطًا دقائق الزمن الآني الذي عاشوه، بشهادات حية عن الظلم الذي تحملوه والاضطهاد الذي كابدوه.
وبهذا يغدو التاريخ الجماعي ثقافة قائمة بذاتها تمثل المضطهد والمهزوم والمغلوب والمنكوب. ووسيلته في ذلك هي التخييل الذي به يكون لمجموع بشري معين ثقافته وأرثه الخاص. وهذا المتخيل يعمل في ما هو وثائقي من بيانات جمعت لنكتشف فيها المستقبل. ومعروف أن لا علم من دون بيانات، وأفضل صورة علمية عن المستقبل يمكننا تأملها إنما تتكون من سيناريوهات مقبولة.
ومن وسائل التاريخ الجماعي في بلوغ ما تقدم، التنقيب في التاريخ الفردي نفسه والكشف عن مسكوتاته، وهذا ما جادت به الطروحات النقدية الانفتاحية عن دمج التاريخ بفروع المعرفة المختلفة، كما فعل اندريه بورغيار الذي جمع الأدب بالانثربولوجية التاريخية، فتولدت عن التاريخ تواريخ منها تاريخ الاستهلاك وتاريخ العادات وتاريخ العائلة وتاريخ النقدية كظاهرة ثقافية واقتصادية، وتاريخ الجسد وتاريخ الأمراض والأزمات وتاريخ السلوك الجنسي.ولكل تاريخ من هذه التواريخ تمثيلات وتحولات، فتمثيل تاريخ الجسد كما يذكر بورغيار شهد تحولات خاصة بالنسالة كمنع الحمل وتحديد النسل وربما هناك تحولات أخرى كالوشم والتلوين او البايومترية التي تتعلق بالتجميل الذي يغير ملامح الوجه وعلاماته الدالة.. ولا شك أنّ للتاريخ الجماعي تمثيلات كثيرة أخرى يمكننا أن نلتفت إليها من خلال التركيز على نماذج تجود بها الذاكرة الجماعية أو تدللنا عليها العلاقات الاجتماعية .
٭ كاتبة وأكاديمية عراقية
اتفق تماما معك في جدوى التاريخ الجماعي وفي أهمية كتابة التاريخ من وجهات نظر متعددة وفي محاولة إبراز راي المهمشين والمهزومين. ولكني اختلف مع قولك أن مؤازرة ما بعد الحداثة مسألة لا مفر منها . اعتقد أن ما تقولينه عن التاريخ الجماعي يمكن اندماجه مع فكرة الحداثة وان مؤازرة ما بعد الحداثة تحمل اخطارا على المهمشين تحديدا .وأعتقد أن مؤازرة الحداثة كفكر عام أمر لا مفر منه وإن مهاجمة الحداثة تضر ليس بالمسيطر والمستفيد والمنتصر وانما تضر المهزوم والمهمش .