يعلن الرئيس الأمريكي بعد ثمانية أشهر من القتل والتهجير استحالة القضاء على المقاومة الفلسطينية، بعدما كبدت الاحتلال الصهيوني خسائر فادحة في بنيته العسكرية وسرديته التاريخية، كاشفا عن صفقة تسمح بإنهاء الحرب وفق سلام مستدام، وإخراج المحتجزين من غزة، وإعادة إعمار القطاع وفق برامج إغاثية، لتبدي المقاومة قبولها المبدئي شريطة أن يرضخ الاحتلال للضغوط الداعية لوقف العدوان أوّلا، في حين صرّح مكتب نتنياهو استمرار حكومته في الحرب حتى إعلان تقويض قدرات المقاومة العسكرية، فهل تستجيب إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية، أم أنّ «هوس الفشل المتكرر» الذي مني به نتنياهو هو من سيكتب نهاية تاريخ الإجرام الصهيوني في المنطقة؟
ينتج الاستعمار تاريخه الخاص به، ويختلق تاريخا منثورا بالحكايات والخرافات والتلفيقات لأولئك الذين لا «يرتقون» لإنسانيته، وعملية الإنتاج تلك تتم تحت ذرائع حضارية من وهم الكولونيالية الغربية، كون المستعمَرين بثيابهم البالية وألسنتهم العربية وعيونهم الضيقة وبشراتهم السمراء لا يمكنهم صنع تاريخهم ناهيك عن كتابته، فهم خارج «الفعل التاريخي» و«التمايز الإنساني» وما تظهره الكتابات المحلية عن الشخصيات المتفردة والحركات الثورية واللحظات الاستثنائية، ما هو إلا انفعال وتماثل للغربي الذي أنشأ «تاريخا عالميا» استحوذ بموجبه على جميع السرديات المغايرة.
ظلت عملية الـتأريخ مرتبطة بالقدرة على التخلص من التاريخ العالمي المهيمن بصفة مباشرة على جميع مناحي التأثير الفردي/الاجتماعي، إذ تمكنت الاستعمارية الغربية من صنع قوالب تاريخية يصعب التخلص منها في ظرف انساقت شعوب نحو الحرية والعدالة الإنسانية، لتكون «الدولة» بنظامها الشمولي مؤسسة «حضارية» لا تملك الرغبة في تنمية الفرد/المجتمع، إذ اعتبرت حاجزا متماهيا في استلاب الآخر (المحلي) ثقافته وتاريخه، وحين يغيب الوعي بضرورة إعادة صياغة تاريخ غير سلطوي، لا يكون فيه العجائبي والملفق السطور الأكثر إيقاعا في الوجدان المجتمعي، تكون «عملية نقد» الحجر الأساس لعملية تأريخ خارج قيم الإمبراطورية.
ليست الدولة وحدها كنظام مؤسساتي يقمع الكتابة التأريخية المختلفة وغير المنضوية تحت تاريخها الوطني، فثمة «وهم الأسطورة» الذي يحيل الآخر إلى الاغتراب وتجنب النقد الصريح للسائد، والتقليل من إرثه الثقافي والحضاري، وهذا الفعل إنّما ينتج عن استحالة الفرد/المجتمع في عدم تقبل ذاتيته، ونزوحه لاقتباس صور المستشرقين الذين نكلوا بتاريخه المحلي بتخيلاتهم وتلفيقاتهم، واستبدلوا ثوراته وتحرره بالهمجية والبربرية، بل جعلوا منافيه في كاليدونيا الجديدة وفلسطين تسكت أيّ صوت مناهض للمستعمِر.
ليست الدولة وحدها كنظام مؤسساتي يقمع الكتابة التأريخية المختلفة وغير المنضوية تحت تاريخها الوطني، فثمة «وهم الأسطورة» الذي يحيل الآخر إلى الاغتراب وتجنب النقد الصريح للسائد، والتقليل من إرثه الثقافي والحضاري
يبدأ تاريخنا متى يصبح اعتراف الغربي بتخلف الآخر مزيّة، وينتهي عندما يسدل ستار السلام على المسرحية التراجيدية للإنسانية، حيث يأخذ العنف أقسى درجاته الرمزية والمادية في إبادة الآخر، ولتصبح السرديات الكبرى نصّا مقدسا غير قابل للتفاوض ولا الاستبدال ولا الإزاحة، فأمام تاريخ مفعم بالدم والقتل والتهجير تقف الخطيئة التاريخية على أعتاب العدم تنسج المزيج من الإلغاء الممنهج للآخر، ومع كل استغلال موحش «للمظلومية التاريخية للمحرقة اليهودية» تخط العناوين الكبرى للحضارة وقيم التعايش، بدل الاعتراف بالنكبة الفلسطينية «تاريخا مفتوحا» يستحيل تجاوزه مع استمرارية المستعمَر في دفع المزيد من المعاناة والألم، فنحن لسنا بديلا عن الغربي الذي يستميت لصياغة تاريخ مفعم بالخيبات والانبطاح، إذ أننا مازلنا لا ننظر إلى الأسفل حيث الأنفاق ترسم مستقبلا لا ينطوي على تراكمات تاريخية، بقدر ما تعيد صياغة الكتابات العالمية المهيمنة بغية استعادة حضورنا الحضاري، حيث يكون الوعي باللحظة الثورية استجابة للضرورات التاريخية في التغيير، وانطلاقة حقيقية للكتابات المقاومة لكل أشكال الاستلاب والتبعية.
ألغت الهجمة الوحشية على قطاع غزة، «وهم الأسطورة» الديمقراطية في المنطقة، واكتسحت نعال المقاومين الفلسطينيين عواصم غربية تطيح بشخصيات صهيونية بارزة لدى الإمبراطورية مدعومة بحراك طلابي عالمي، إذ لم يمثل نتنياهو حالة التشظي الصهيوني في فضائه الداخلي فحسب، بل ساهمت الخطابات التحريضية والمبررة للعنف من طرف بايدن، الذي لعب دور وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، في تعريف «الذات الصهيونية» الرافضة للاعتراف بالحق في الحياة للفلسطينيين، وبقي هوس القضاء على المقاومة يغلق مساحات التفاوض والحلول النهائية، وبطريقة مركزة لمنع الانفلات من تحقيق العدالة ومحاكمة الجناة في الإبادة الجماعية، سارع الغرب بمعية بايدن لتحميل المقاومة تبعات جرائم الاحتلال في فلسطين، وبات الشعور المقزز في استخدام أسلحة الغرب ضد المدنيين العزل يتعذر الدفاع عنه سياسيا، لكن يصعب تحميل نتنياهو خيباته المتكررة.
دافع نتنياهو عن قصف المخيمات وسقوط المدنيين كونه خطأ فاضحا، واستشهد بواقعة القوات الفرنسية حين ضربت حفل زفاف في مالي، ولم يتهم ماكرون كمجرم حرب. هذا التبرير لنية القتل العمد واستحضار وقائع تاريخية يذهب مجملها لتشريع العنف ضد احترام القانون الدولي، الذي يفترض أن يلغي الاستثناءات ويمنع احتكار القيم الإنسانية، متوقف على مدى استجابة حكومة نتنياهو لمقترح انهاء الحرب المقدم من الرئيس الأمريكي، إذ أنه يرسم الضمانات الضرورية لإخراج نتنياهو من وحل غزة فشله السياسي وملاحقته القانونية، غير أنّ تعالي الشخصية المجرمة وعدم قبولها بالهزيمة وبفشلها الذريع في تحقيق أهداف الحرب، سيزيد من عزلتها الدولية تمهيدا للإطاحة بها.
يتواصل دعم الغرب لنتنياهو مع تكلفة الحرب المروعة في الخسائر البشرية والمادية، بشتى أنواع السلاح والمعونات والمرتزقة الأوروبيون، ويعلن على الجبهة الشمالية رفع الحظر عن أوكرانيا لاستهداف الأراضي الروسية بأسلحة غربية، بدل البحث عن مخرج آمن وتسوية مستعجلة للصراع المفتوح والمهدد لاستقرار العالم، وتقف الأمم المتحدة عاجزة أمام اختزال مشين للقانون الدولي واستثناء مفرط للاحتلال الصهيوني، بينما تشتد سواعد الآخر الرافض للتبعية والخضوع، مخلصة العالم من سردية ملفقة طالما أطبقت على طموحات الشعوب الحرّة بقوة الجند والمال واستعباد الطغمة الحاكمة، ومهما تلاحقت فصول التراجيدية العربية وبالخصوص الفلسطينية، فإنّ للحديث بقية عن احتلال يحفر أجداث الكولونيالية بمعول الخطيئة التاريخية المستمرة.
قدم طوفان الأقصى تفسيرا حقيقيا وواقعيا للذات الصهيونية المهيمنة على العالم، وفضح سردية الأبيض المتميز والمتحضر عن الآخر، كاشفا الوجود الفعلي له في الحضارة الإنسانية، وواصفا تجربته التاريخية بإقصاء القيم الإنسانية وإلغاء الآخر، ومحبطا جميع المحاولات لاختزال تاريخ الطبقات المقاومة الذي أربك التاريخ الامبراطوري، بعدما جعل من نتنياهو وبايدن وآخرين هوامش العالم الحرّ.
كاتب جزائري