من البديهي القول إن السردَ هو القالبُ الشكلي الذي فيه تُصبُ المادة التاريخية، غيرَ أن هذا القالب ليس مجرد صياغة كتابية، وإنما هو تمثيل أنطولوجي ومعرفي وأيديولوجي، به يصبح (ما حدث فعلا) محكيًا تاريخيًا لـ (ما حدث احتمالًه) وبذلك يحل ما هو احتمالي محل ما هو حتمي وواقعي. والتاريخ منذ هيردوتس هو تاريخ لما هو محتمل الوقوع، وليس لما هو تمام الوقوع، الذي لا فصل فيه بين الوقائع والخيال، نظرا لوجود السرد الذي هو نظام كتابي به يصبح الوقائعي خطابا قصصيا، فيتحول التاريخ إلى تواريخ، وتتفتت عظمته كسردية تاريخية كبرى متحولا إلى سرديات صغرى. وواحدة من النظريات التي فيها يتعالق السرد بالتاريخ هي نظرية (التاريخ بوصفه سردا) لهايدن وايت وفيها يوافق شكل التاريخ محتواه، ومعلوم أن أي مادة أدبية هي عبارة عن شكل ومحتوى، لكن إضافة أحدهما إلى الآخر وليس عطفهما كـ(محتوى الشكل أو شكل المحتوى) حيث الشكل هو السرد والمحتوى هو التاريخ هو بالضبط ما قصده هايدن وايت في كتابه «محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي» ترجمة نايف الياسين والصادر في البحرين عام 2017 ـ
إن وجهة نظر هايدن وايت تقوم على إلغاء ثنائية الشكل/ المحتوى جاعلة محتوى الشكل هو شكل المحتوى، ليكون الشكل هو القالب الأسلوبي الذي لا توصيل فيه ما لم يقترن بمحتوى هو عبارة عن تمثيل للمضمون التاريخي، محدثا بذلك فرقا في النظريتين التاريخية والأدبية معا. وبهذا تغدو للتاريخ صفة الشعرية بأشكال بلاغية هي (الاستعارة، الكناية، المجاز، السخرية) وبهذه الأشكال تُكتب الأحداث التاريخية ضمن روابط سببية، لا تهدف إلى التوثيق فقط، بل التشويق أيضا بغية التوصيل. وهذا هو الذي يعطي للسرد قيمة فكرية في عملية تمثيل الوقائع تمثيلا تاريخيا.
وجهة نظر هايدن وايت تقوم على إلغاء ثنائية الشكل/ المحتوى جاعلة محتوى الشكل هو شكل المحتوى، ليكون الشكل هو القالب الأسلوبي الذي لا توصيل فيه ما لم يقترن بمحتوى.
ولا يقبل هايدن وايت بنوعين من التمثيل التاريخي هما الحوليات والإخباريات، على أساس أن التاريخ فيهما يفتقر إلى المكون السردي التام. وكان الفرنسيون قبله قد دعوا إلى تحويل الحوليات إلى ما سماه جاك لوغوف (التاريخ الجديد). وطبق وايت فكرته على كتاب «حوليات القديس غال» وقد وجد في جمله التاريخية تفككًا بسبب خلوه من التحبيك وما فيه من علاقات تمنح الأحداث ترابطًا، متوصلًا إلى أن الحوليات لا خلاصة لها لأنها ببساطة تنتهي بمتن هو «مات الإمبراطور هنري وخلفه في الحكم ابنه هنري»، ولعل الذي أوحى لهايدن رؤيته التاريخية هذه، هو مثال فورستر (مات الملك ثم ماتت الملكة) كمتن حكائي لا يرتفع إلى درجة المبنى الحكائي؛ إلا بالسببية لنقول: (مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه) وهذا هو ما يتحقق في كتابة التاريخ؛ فالمؤرخون لا يريدون لعملهم أن يكون مفككا بفجوات وانقطاعات، لذا لا تغيب الروابط السببية عنهم وهم ينسجون الأحداث مرتبين لها ترتيبا يرتفع بالتمثيل التاريخي للوقائع من العمل الحولي إلى العمل القصصي، وإلا فإن الحادثة التاريخية التي تُروى من دون تحبيك سردي هي مجرد محتوى لا ترابط شكليا فيه، وهو ما يمثل عليه وايت بحملات تشارلز ضد الساكسونيين. إن الذي يدحض التاريخ كحوليات هو النظام السببي الذي يتحقق بالتحبيك السردي، وصحيح أن في هذا تدخلا إبداعيا في ما هو وقائعي كان قد حدث، لكنه مهم في توصيل القصدية التي تجعل النتائج بمسبباتها. وما دامت السببية حاضرة فهذا يعني أن هناك نتيجة. بهذا تكون نظرة وايت للتاريخ نظرة محايثة تفترض السرد مهما في تسجيل الأحداث التي تُقدم بوصفها المحتوى الشكلي للخطاب التاريخي.
وهذا ما يجعل كل حدثٍ تاريخي قابلًا لسردين على الأقل، ولا يريد وايت نظرية أو منهجا حسب، وإنما يريد شكلا في الخطاب يمكن أن يستخدم في تمثيل الأحداث التاريخية. وإذا كان السرد هو الشكل؛ فإن القصة التاريخية هي التمثيل الشكلي لمحتوى أحداث وقعت، من خلال المحاكاة المحتملة التنقيحية، وليست المحاكاة طبق الأصل الفعلية، محكية على لسان راو هو غير المؤرخ، والنتيجة «أن القصة التي تتم روايتها في السرد هي محاكاة للقصة المعيشة في منطقة ما من الواقع التاريخي».
وهذا هو الفرق بين النظرية التاريخية التقليدية والنظرية التاريخية المعاصرة، فالأولى تقول بأن المؤرخ يروي ما حدث فعلا، وهذا ما يسميه هايدن وايت (النمط الأطروحي في الخطاب التاريخي) ويرفضه لأنه يتناسى السرد الذي به يتشكل هذا الخطاب، ممثلا بمقولة بنديتو كوتشه «حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ».
وتغدو مسألة السرد عند هايدن وايت عبارة عن شكل المحتوى للخطاب التاريخي، وهذا هو التميز الذي جاءت به نظرية هايدن وايت، بعد أن كان الخطاب التاريخي عند أغلب مؤرخي القرن التاسع عشر مرتبطا بالأيديولوجيا ومنهم هيغل الذي اهتم بالتاريخ السياسي، ولاسيما كتابه «محاضرات حول فلسفة التاريخ» الذي فيه تتلاقى الخاصية التاريخية بالنظام السياسي والاجتماعي.
صعوبة الفصل بين النص والسياق، والسبب أن التاريخ الفكري يتعامل مع المعنى وإنتاجه أو استهلاكه، مطبقا ذلك على بعض مؤلفات هنري آدامز.
ولا يخفى أن واحدةً من سمات التاريخ السياسي أنه موجه فكريًا بإطار فني، غايته تقليص المسافة بين الواقع والخيال، وجعل الواقعي هو الغالب تدعيما لبطولة إنسانية أو توكيدا لفعل ملحمي يصعد فيه الواقع تصعيدا دراماتيكيا. وكأن كل ما في التاريخ هو حقيقي وأن ما دون ذلك لا يطاله شك، لأنه وقع وانتهى وصار ماضيا، وهذا ما ترفضه نظرية التاريخ الهايدنية التي ترى التاريخ ليس ما وقع ماضيا، بل ما هو واقع في ماض مستمر في الحاضر ومتجه إلى المستقبل، فنصوص التاريخ المدون لم تقل كل ما مضى، إذ ما زال هناك مغيب ومسكوت عنه كثير في بطون التاريخ.
ويشير هايدن في حديثه عن سياسات التأويل التاريخي إلى مسألة «الانضباط ونزع التسامي» التي تتصل بكتابات ماكس فيبر، رافضا العلاقة بين التفكير التاريخي والتفكير السياسي، مرجحا ما ذهبت إليه حنة اردنت في نزعتها الإنسانوية للشمولية التي ترى أن السياسة تتردى في النظرة المصاحبة لفلسفة التاريخ. وبسبب تأييده لآراء حنة اردنت دعا إلى نزع الأدلجة من التفكير التاريخي وأن لا يكون هناك اختصاص في الدراسة التاريخية، مناقشا ارتباط التاريخ بالسياسة في ظل ثورات مؤدلجة كالثورة الفرنسية، يقول: «أنا ضد الثورات سواء انطلقت من أعلى، أو من أسفل في التراتبية الاجتماعية.. أنا مثل أردنت كنت أتمنى لو كان ما يوجه السياسيين ذلك النوع من الواقعية الذي تفضي إليه معرفة تاريخية مختصة». وهايدن في الوقت الذي يؤكد أن النظرية التاريخية المعاصرة خيالية، لكنه يؤكد عقلانيتها وصحيح أن عمل المؤرخ يشبه عمل الروائي، لكنه مضبوط بأسلوب تاريخي للتخييل. ويعود وايت إلى كتب هيغل وكانت ويجد الماركسية تناهض الطوباوية منتهيا إلى أنها «مهما كانت راديكالية كفلسفة اجتماعية وخصوصا بوصفها نقدا للرأسمالية فإنها كفلسفة للتاريخ ليست أكثر رؤيوية من نظيرتها البرجوازية».
ووقف وايت عند أعمال فوكو الفلسفية، لاسيما اهتمامه بتاريخ الإنسانونية المضادة واجدا أن موقفه الفلسفي قريب من عدمية نيتشه في كتابه (هذا هو الإنسان) كما يتطرق إلى كتابات فوكو عن الجنون والعقل والجنس والجنسانية والسلطة والثقافة وبحثه عن طبيعة الإنسان، الذي هو موضوع المعرفة والوعي التاريخي. أما جيمسون الناقد الماركسي الديالكتيكي المولع بالنقائض والقائل فإن وايت وجد عنده خلاصة السرد والخروج من التاريخ عادا كتابه «اللاوعي السياسي» هو أكثر المحاولات طموحا لتقديم تركيب للأعراف النقدية منذ كتاب نورثروب فراي «تشريح النقد».
ولهايدن وقفة طويلة عند نظرية ريكور للزمن والرمز في فلسفة التاريخ والميتافيزيقيا السردية ووصف عمله الضخم «الزمان والسرد» أهم تركيب لنظرية الأدب والتاريخ التي أُنتجت في القرن العشرين. وأكد في دراسته «السياق في النص والمنهج والأيديولوجيا في التاريخ الفكري» صعوبة الفصل بين النص والسياق، والسبب أن التاريخ الفكري يتعامل مع المعنى وإنتاجه أو استهلاكه، مطبقا ذلك على بعض مؤلفات هنري آدامز.
بهذا يكون كتاب هايدن وايت «محتوى الشكل..» فرشة ما بعد حداثية نقد فلسفية، تريد المواءمة بين السرد والتاريخ، ليكون الكتابُ استكمالًا لمشروعه النظري في التاريخ.
٭ أكاديمية عراقية