من الصعب القول بوجود قراءة قارّة وناجزة للتاريخ، أو حتى القبول بمعطياتها وأحكامها السيرية والنقدية، أو الركون إلى ما تذهب إليه من مقاربات أو معالجات أو مواقف، لاسيما ما يتعلّق بأحداث مفصلية في التاريخ، كثر الجدل والسجال حولها، وحتى لحظاتنا المعاصرة لم تكن بعيدة عن الفخ الأيديولوجي والطائفي لقراءة وتأويل التاريخ وأحداثه، وأقصد هنا، التمثلات التي اقترنت بصراعات كبرى بين جماعات، وحول توصيف هويات ومواقف معينة، فضلا عن ما تمخض عنها – بعد نشوء الدولة الحديثة – من صراعات انعكست على الخطاب السياسي، وعبر لبوس إثنية ودينية، إذ كشفت تلك الصراعات عن تمثيلها اللاواعي للأنساق المُضمَرة المتحكمة بالخلافات وأعمال العنف والكراهية ورفض الآخر، ولأسباب أسهم ضعف جهاز الدولة بتضخيمها، حيث قوة الجماعة وعصابها، وحيث التحكّم اللاواعي الذي مارسته وتمارسه السرديات الكبرى على الجماعات، بدءا من «السرد المرآوي» ومظاهر زيفه وتغويله، وليس انتهاء بـ«السرد الأيديولوجي» في مرجعياته العصابية والقومية والطقوسية والطائفية، عدا عن ما يقترحه له «المتخيل التاريخي» من سرديات مجاورة، تلك التي تبرز عبر مظاهر المقدس والحكواتي والمثيولوجي والشعبوي.
هذه القراءات الملتبسة والشائعة، لم تكن محكومة بالمشافهة، بل أسست لها نصوصا وسيرا وحكايات ومغازي، بعضها تحوّل إلى ممارسة طقوسية، وبعضها الآخر تسلل إلى ما هو رمزي وعلاماتي، لكن طابعها الصراعي ظل متجوهرا حول وظيفة الغلبة والتعالي، وفي أحايين كثيرة عمدت السلطة أو الجماعة على تجييرها لصالح مصالحها، وتحت يافطات أيديولوجية ومركزية، للمجاهرة بفكرة «الفرقة الناجية» و«الأمة الخالدة» و«الطائفة الغالبة» وغيرها.
لعبة تدوين التاريخ، هي لعبة تأويله لتطويعه، حتى يبدو وكأنه «أدلجة مضادة» لها سياقها، وحمولتها الرمزية، وبراديغماتها، لكن أخطر ما في هذه اللعبة هو تحولها إلى خطابٍ عمومي، حيث التحول إلى فخ، وإلى مجال يوظف ذلك الخطاب في إدارة الحكم والأيديولوجيا والعصاب، حيث إقصاء الآخر المختلف، عبر تشيوئه، أو عبر تحويله إلى مارق أو خائن أو كافر، وهو ما يسوّغ كراهيته وتكفيره، وإقصاءه، والتعالي عليه، وبما يدفع نحو التورط الكامل إلى المرآوية و«الواحدية» التي قال عنها أدونيس، بوصفها أقنعة للديكتاتور والطاغية والفقيه..
لعبة الطرد والطرد المضاد تتكرس عبر غلو تلك الواحدية، مثلما هو تكريسها عبر لعبة تخوين ذلك الآخر، بتخوين نصه من جانب، وتهويل الذات المرآوية من جانب آخر، وجعلها مادة شهية ومخادعة للتعالي الأنثروبولوجي، على مستوى الهوية والشخصنة والجغرافيا، أو على مستوى ترتيب وجودها العلائقي داخل التمثيل اللغوي، والسردي..
الرواية والاحتيال على التاريخ
كتابة الرواية قد تكون قناعا لخيانة التاريخ، أو للاحتيال عليه، ولإعطاء «كائن المرآة» أو «كائن الرواية» صفة الصاحب/ الرائي، والمائز والعارف، حيث يقوم بتجريف الأحداث، وإخضاعها إلى مقياس أيديولوجي أو طائفي، ولجعل الروائي وكأنه «شيخ طريقة» أو لص، أو مُفسّر أحلام، أو بائع للوجبات السريعة، تتجوهر وظيفته بين خدمة الإشباعات العامة، حيث تقديم النص الذي تصنعه السلطة، والأيديولوجيا والجماعة، وبين صناعة «النص الضد» أي «الخدمة السرية» حيث ينسحب الخطاب إلى الذات، والتوغل في إشكالات اغترابها عبر الرموز والأقنعة والأساطير والميثولوجيا. لذا أجد أن أسوأ وظيفة يمارسها الروائي هي أن يكون كاتبا للتاريخ، لأنه سيمارس الخيانة حتما، أو سيكون مؤلفا للخديعة عبر «الميتاسرد، وسيجعل من قارئه أكثر تورطا بتشهي هذه الخيانة/ الخديعة، وربما سيدفعه للوهم بأنه سيتكئ على مرجعيات ومناهج تزيد من غموضه، ومن أبرزها الذهاب مع أطروحات أنثروبولوجيا شتراوس البنيوية، التي تعمد إلى تضخيم المعالجات السردية للجماعات، عبر اصطناع بنى رمزية غامضة وملهمة لهوياتهم ولعلاقاتهم.
حيادية شتراوس ستكون هنا مخادعة أيضا، إذ لا حيادية في قراءة التاريخ، وإن بنى شتراوس للجماعات، هي مجال للدرس، وللقراءة الأناسية، وبما يجعل تلك الجماعات خارج التاريخ، فضلا عن أن شتراوس يعزلها عن المؤلف، وعن العلاقة مع الآخر/ المستعمر/ المستشرق/ التبشيري، وهو ما يعني تقويض الوجود العلاماتي للهوية، والدفع بها إلى علاقة ملتبسة مع قارئ التاريخ، إذ سيتحول إلى آخر يحكي أو يروي أو يؤلف، والذي سيصنع نصا سيدور حول العلامة التي تمثلها هذه الجماعة، المحمية بالعلامات، لكنها في الجوهر مهزومة، أمام الآخر المكتشف والمبشر والمنتصر، الذي سيجعلها مادة للدرس كما فعل شتراوس، أو سيضعها في مكان قريب من السحر، وبعيد عن التاريخ، وأكثر تماهيا مع ما يرسمه لها الكولونيالي، الذي سيعمل على تقزيم المكان والهوية والنظم والعلامات والعبادات، عبر تسحيرها وتهميشها، وعزلها عن حمولتها الرمزية، وحتى عن تاريخها الذي تحفظه عبر العلامات والعادات والطقوس، لأنه سيخضعها إلى الخدمة، أي خدمة التابع، والعبد بعيدا عن أي توصيف لمفهوم الآخر، ولكينونة الوجود في المكان والهوية.
كائنات المعارك المقبلة كلهم متعصبون، لأنهم ضحايا التاريخ والهوية أو هم حاملو عقدها، مثلما هم ضحايا الآخر في استشراقه الإمبراطوري، وفي حداثته وجنسه ورعبه وحروبه واحتلاله، وهذا ما يجعل الذهاب إلى ترياق التاريخ اضطرارا، كمن يبحث عن نهايات عجولة، وهذا ما يعني الحاجة إلى مراجعات كبرى، لتكون بمستوى السرديات الكبرى.
التاريخ والهوية
هل ستكون العودة إلى التاريخ محاولة لصيانة الهوية؟ أم ستكون هذه العودة نوعا آخر للمواجهة، أو ربما ستكون أشبه بخديعة من يستجير من الرمضاء بالنار؟ هذه الاسئلة، تكشف عن خطورة الأزمة، بما فيها أزمة قراءة التاريخ، لاسيما وأن النزعات الصيانية، والترميمية لهذا التاريخ كانت المسؤولة عن صناعة كثير من مظاهر الخراب، والعزل، والتشكيك بمظاهر النهضة والتنوير والحداثة، على أساس أنها «منتجات كافرة» وحتى «الدولة مابعد الكولونيالية» لم تكن بعيدة عن هذه العدوى، فأمراض الاستشراق ظلت تتسلل إلى كثير من السرديات، ومنها الرواية، لتتكرس عبرها، مظاهر للعلاقة المأزومة مع الآخر، وللغلو في التعاطي مع مفاهيم الهوية والأمة والدولة، لأن استعمال هذا المفهوم صار الأكثر تعبيرا عن تلك الأزمة، إذ لم تستطع هذه الدولة أن «تصنع أمة» ولم تستطع أن تصنع تاريخا بمواجهة سلسلة انقطاعاتها الكبرى، منذ سقوط بغداد 1258، لذا بات الصراع حول مفهوم التاريخ، وحول تدوينه، المأزق الأكثر تعبيرا عن الصراع، وعن عقدة البحث عن الهوية، عبر تفريغها من مصادر قوتها ووجودها، وعبر أزمة علاقتها بالآخر، وضعف أدواتها في تمثيل ذاتها، وفي التعبير عن وجودها عبر أي نص جديد تكتبه، أو عبر وجودها في سياق هوية تواصلية. هذه الأزمات/ المآزق تبدت بشكلٍ واضح عبر علاقتنا بالآخر، لاسيما في «مرحلة مابعد الكولونيالية» و«الاستشراق، والتبشير، التي أطيح بها كما يقول هشام جعيط، لتجد الأنتلجنسيا العربية نفسها أكثر انغمارا في سجالات حول التاريخ والهوية، وحول سردياتهما، وحول علاقة العربي بالمدينة، وبالحداثة، وهل لهذه العلاقة من عقدة ذنب؟
إن معاركنا المقبلة ناقصة، أو شوهاء، إذ أسهم العجز عن الاستعادة، وعن الانتصار، إنتاج إرهاب تعويضي سلفي ذي أوهام إشباعية، مثلما أسهم في بروز دول عاجرة تحكمها الأصوليات، فضلا عن ما ستنتجه هذه المعارك من أقنعة متعددة للخفة الثقافية، حيث مظاهر الاغتراب، والعزل والنفي والدونية، وحيث مظاهر العنف والكراهية والتكفير، وحيث ما يشبه انتحال الهويات «القاتلة» أو المقتولة، رغم أن الهوية ليست شيئا ثابتا، كما يقول ريكور، الذي يعتقد أن «الهوية السرديّة هي صورة الذات المتحركة، التي لا تتحقق إلاّ بالسرد. فقد طوّر خطابا فلسفيا حول السرد ليفرد للهوية السردية موقعا مفصليا، جاعلا منها عنصرا محدّدا في مسائل المعنى وقضايا الإيتيقا والتعرّف على الإنسان».
كائنات المعارك المقبلة كلهم متعصبون، لأنهم ضحايا التاريخ والهوية أو هم حاملو عقدها، مثلما هم ضحايا الآخر في استشراقه الإمبراطوري، وفي حداثته وجنسه ورعبه وحروبه واحتلاله، وهذا ما يجعل الذهاب إلى ترياق التاريخ اضطرارا، كمن يبحث عن نهايات عجولة، وهذا ما يعني الحاجة إلى مراجعات كبرى، لتكون بمستوى السرديات الكبرى، وطبعا هذه المراجعات تتطلب وجود مؤسسات، وبرامج ومشاريع، وبيئة علمية وأكاديمية وثقافية، ترسم حدود المشكلة والمواجهة، بدءا من إعادة توصيف العلاقة مع الآخر، مرورا بهيكلة الأنظمة المعرفية والتعليمية والاقتصادية والسياسية، وانتهاء بالعمل على مواجهة التاريخ ذاته، عبر مشروع مستقبلي يلامس عقد الواقع، وتفاصيل الناس التي أسهمت الدولة الحديثة في تعطيب حريتها ووعيها، إذ لا تاريخ ولا دولة ولا أمة دون ناس يؤمنون بحقيقة ما يمكن أن يكون صالحا للاستعمال والتداول.
كاتب عراقي