بعد زمن طويل من اعتماد المبدعين التاريخ مصدرا للوحي الكتابي، واستلهامه في نصوص، إما تكتب التاريخ بحقيقته كما حدث، أو تكتب تاريخا متخيلا، ينسج المبدع على منواله أحداثا ويأتي بشخصيات من خياله، ما تزال هذه المادة خصبة، وتملك في كتبها العديدة، ما يمكن أن يسعف كتابة التاريخ روائيا أو شعريا.
وقد تحدثت مرة عن التاريخ في الرواية، وذكرت أن تخيل التاريخ، أسهل وآمن للكاتب، من كتابة التاريخ الحقيقي، ذلك أن التاريخ الحقيقي لشخوص وأحداث معينة، لم ينته بانتهاء حقبته، لكن توجد امتدادات له في العصر الحالي، يوجد أحفاد لملوك حكموا ذات يوم دون عدل، وأحفاد لظالمين ومظلومين، ولنساء ربما اغتصبن أو تم سبيهن، لذلك كل رواية تكتب تاريخا حقيقيا، لن تكون صادقة على الإطلاق، إنها غالبا تمس الأشياء السطحية في الشخصيات الحقيقية المذكورة، ولا تغوص في الأعماق، تكتب الوجع الذي قد يكون حدث، ولا تكتب مسببي الوجع صراحة، ولو تأملنا عددا من الروايات التي تعرضت لحكام أو ثوار قدامى، سنجد معظم ما كتب عنهم مدحا، هناك كم من الشجاعة والكرم والتدين والأخلاق، يتحلى بها أولئك في النص، ما يدل على أن الكاتب لم يرد أن يكتب أكثر من ذلك، وإنه في الحقيقة يقترب من التخيل التاريخي.
لكن لو قرأنا التاريخ كمادة مكتوبة بحياد، أو بغير حياد، هل سنفكر في أن ما كتب ليس حقيقة؟ وأن من كتب هذا التاريخ، كان حساسا أيضا تجاه شخصيات معينة؟
أعتقد أن هذا السؤال صعب الإجابة، ذلك أنك تحصل على سلوك متقلب في كثير من الشخصيات التي ترد في التاريخ، ستعثر على الكرم والأخلاق الحميدة في مكان، وعلى الفسوق والعربدة، وحب الجواري وقتل الناس لأسباب واهية، في مواضع أخرى.
وقد رافقني في الأيام الماضية كتاب «مخطوطة كاتب الشونة» الذي ينسب لمؤلفين عديدين، والذي يتحدث عن الدولة السنارية القديمة في السودان، وصراحة رغم التواريخ الكثيرة والهوامش، وكثير من الكلمات الصعبة التي تركت بلا تفسير، يظل كتابا ممتعا، والأهم من ذلك، كتابا موحيا بالكثير من السحر الذي نحتاجه لكسر جمود الرواية، وكتابة رواية فيها حقائق، وفيها خيال كتابي، وأرى أن عملية الجذب في هذا الكتاب، تكمن في كونه ممتلئا بعدد كبير جدا من شخصيات السلاطين الذين حكموا الدولة السنارية منذ أن أنشأها عمارة دنقس، بعض أولئك حكم عشرين أو ثلاثين عاما، وبعضهم حكم سنوات أو أشهرا معدودة، لكن تبدو سمة الحكم واحدة، وأظنها السمة التي ما تزال مسيطرة علينا حتى الآن: السلطان لا بد من طاعته، والانجرار خلفه في الخير والشر، ولا يسمح برأي آخر، مهما كان هذا الرأي صائبا، وغالبا يؤدي الإصرار على الرأي الآخر، إلى هلاك صاحبه. سمة أخرى أيضا ترافقنا إلى الآن، وهو عدم وجود أمان حياتي أبدا، حيث تدور الحروب بصورة عادية، وعادي جدا أن تجد أن معركة دارت بين سلطنتين، بسبب الرعي مثلا، أو بسبب دخول حمير طليقة، حدود سلطنة ما، مات بسببها الآلاف طائعين أو مجبرين. أيضا التشرد، والهروب من الوطن، إنه مادة كبيرة ومزعجة وهي المادة التي ترافقنا أكثر هذه الأيام.
كتاب «مخطوطة كاتب الشونة» سأختار شخصية الملك بادي أبو دقن، إنه سلطان عمّر في السلطة، وخاض فيها وبها بحورا كثيرة من الغرائب، إنه عباءة جيدة ليرتديها بطل متخيل، يروي بها الأحداث.
في الماضي كان المواطن يترك سلطنته، سعيا وراء كسب في مكان آخر، أو خوفا من بطش السلطان، لأن وشاية وصلت إليه، والآن بطش السلطان لا يحتاج لوشاية، فكل الذين يغادرون بلادهم، إنما يغادرونها لصعوبة العيش، ولتسلط من يحكمها، وتحول الحياة فيها إلى حياة داخل سجن مادي ومعنوي، والفرق هنا أن الفرار قديما، كان سهلا، ما عليك سوئ ركوب الدابة، أو حتى المشي لتصل سلطنة أخرى، بعكس الهروب الآن، الهروب الخطر الذي تركب فيه البحر، وتعلم تماما أنك في غالب الأحوال لن تصل للضفة الأخرى، وإن وصلت قد تتم إعادتك إلى مصيرك القاحل، وشاهدنا جميعا كيف تعلق الأفغان بأجنحة الطائرات، وسقطوا من أعلى وماتوا، حين اقتحمت حركة طالبان الشرسة البلاد مرة أخرى، بعد عشرين عاما من دحرها، أو ما ظنه المواطنون دحرا ولم يكن كذلك.
على أن في كتاب «مخطوطة كاتب الشونة» كثيرا من الطرائف المرتبطة بالخرافة، ومعروف أن الخرافة من مواد بلادنا الأثيرة، وما زال كثيرون يستغلون ذلك في الاحتيال على الناس، وهذه الخرافة محبوبة للذين يكتبون روايات بنكهة الواقعية السحرية، ومما ذكر بيقين كبير وجدية، في الكتاب، أن شيخا غضب من جماعة أساؤوا إليه، فجعل الرجال يحيضون، نعم يحيضون وبالطبع لم يفكر من ألف تلك الخرافة في عملية الحيض، التي تستوجب وجود عناصر تشريحية وفسيولوجية، لا تتوفر في جنس الرجال.
أستطيع القول، إن التاريخ ملامس حتمي للواقع المعيش، نحن نعيش في عصر جديد غني بالتكنولوجيا، وتوفر المعلومة بسهولة، وفي الوقت نفسه نعيش الزمن التاريخي الوحشي ذاته، الظالم للإنسان، وأي رواية تاريخية نسجت عن الماضي، ليست كذلك، إنها في الغالب إسقاط لهذا الزمن في زمن بعيد، أو لنقل ترحيل سوءة الزمن الحالي إلى زمن آخر، حتى لا يحاكم أحد مؤلفها، لكن الأمر لا ينتهي هنا، فدائما ما يوجد من ينبش ويعرف ويناقش، ويصل إلى المغزى الحقيقي. ولو أردت شخصيا كتابة رواية عن الدولة السنارية، وإسقاطها على الحاضر، من وحي كتاب «مخطوطة كاتب الشونة» سأختار شخصية الملك بادي أبو دقن، إنه سلطان عمّر في السلطة، وخاض فيها وبها بحورا كثيرة من الغرائب، إنه عباءة جيدة ليرتديها بطل متخيل، يروي بها الأحداث.
كاتب من السودان