عبدالكريم كاظم1 ـ لم يكن ما حدث في مدينة بغداد يوم التاسع من نيسان/2003 يوماً عادياً في حياة العراقيين فهذه هي المرة الثانية التي تجتاح بها قوات احتلال (أجنبي) عاصمة دولة عربية، فكلنا نتذكر ما حصل في خريف عام 1982 عندما اجتاحت القوات الاسرائيلية مدينة بيروت ومحاصرتها على نحو دام ثلاثة أشهر حتى خروج القوات الفلسطينية منها عن طريق البحر وما ترتب على هذا الخروج من تبعات وتنازلات سياسية، ومابين هذا التاريخ البغدادي وذاك البيروتي علامتان فارقتان تتعلقان بحجم التأثير بحيث لا يقاس الحدث الاول مع ما جرى لبغداد في الحدث الثاني، طبيعي أن الهدف من هذين الاحتلالين كان واحداً بيد أن العسل الامريكي كان يخفي في داخله سماً زعافاً وما لبثت الفرحة أو الابتسامة الامريكية أن تحولت إلى محنة وتكشيرة فقد أكتشفت ادارة البيت البيضاوي أن احتلال العراق وتدميره بهذه السرعة وعلى هذا النحو الدراماتيكي لم تكن نزهة أو رؤية سينمائية هوليودية بل مغامرة/حماقة وخيمة العواقب كما حذر منها الكثير ممن يعرفون نوايا وخفايا السياسية الامريكية .لاشك أن الأسئلة كثيرة جداً وتحتاج إلى دراسات وبحوث مستفيضة للإجابة عليها، لكننا لا ندّعي الإحاطة بالمعلومات الكافية في هذا المقال بل سنقصر على إيضاح نقطة مهمة غير خافية على من أراد أن ينظر إلى الأمور التي حصلت بعد ذلك التاريخ المدون اعلاه بعين الحقيقة، فامريكا لا زالت تتمتع بكامل امكانياتها الاقتصادية/العسكرية كقوة عظمى محافظة أيضاً على كامل سماتها وقدرتها على التجدد في الشكل والمضمون، مما يعني استمرارها على التأثيرات العميقة المتبادلة على الصعيد الكوني التي تحدد من خلاله التقارب والتباعد والتعايش في ظل مرحلة السيطرة المطلقة التي قد تطول تبعاً لإمكانية سيطرتها الكاملة تماماً على العراق، فهذا البلد هو نقطة البدء وهو الحيز الهام من استراتيجية السيطرة على منطقة تختزن أحد اكبر مصادر الطاقة في العالم وتتمتع بموقع استراتيجي حساس ناهيك عن ثرواتها الكبيرة والغنية الأخرى التي لا يسعنا المجال هنا لسردها وتعدادها . ثمة من يقول أو يتساءل: هل تستطيع أمريكا إكمال سيطرتها على العالم دون الانتهاء من موضوع العراق ودون اللجوء، في كل مرة، إلى العنف المسلح بعد تدامج الاقتصادي والعسكري تحت مظلة السياسي وهل تستطيع استعادة صورتها الديمقراطية قبل تحولها إلى قوة عظمى أو كما يحلو للشيوعيين تسميتها إمبريالية عالمية؟ المسألة إذن في جوهرها ليست في إثبات مطابقة سياساتها التكتيكية في المنطقة بقدر ما تطمح إلى تحولها اليوم وغداً إلى نظام عالمي شامل متكامل لاستغلال الأكثرية الساحقة خصوصاً في منطقة الشرق الاوسط، وبهذا تكتمل بدورها سياسة الخنق الاقتصادي اولاً ومن ثم السياسي، الثقافي والاجتماعي حتى يترسخ نفوذها وينتهي الآخر المتماهي إلى ممارسة نزعاته الاستسلامية بالكامل بعد أن أُدخلت عليها مفاهيم وتعديلات النظام العالمي الجديد وفرسانه الليبراليون وحيثياتهم .ليس ما سبق من كلام مدخلاً أو إيحاءً للقول بان ما تقترفه أو تفرضه أمريكا هو واقع سلطوي محض بل للقول بأنه واقع آخر مختلف يستلزم المعرفة في تفسير سماته كي نفصل المفهوم عن المصطلح بصورة كاملة بعيدة عن كل استخداماتنا الشكلانية التي تسبق النتائج دائماً بالقفز على المسببات الاولية الاساسية كمحاولة لإرضاء الآخر عبر المحاباة أولاً والإيديولوجيا تالياً وهنا سيستمر شعورنا بمرافقة الخيبة حتى نصل للقول الأخير رغماً عنا ونردد على مضض منا أيضاً هذه العبارة أن تطور مجتمعاتنا ستكون مؤجلة إلى ما لانهاية أو إلى أن تشاء امريكا، سمة أخرى سترافق قولنا هذا وتدعمه، هو الحالة العراقية المتردية المتواصلة على كافة الاصعدة، لم يَعُد هناك جديد نضيفه ونحن على بوابة السنة العاشرة من عمر الاحتلال حول ما تمارسه ماكنة القمع الامريكية واذنابها من الاذلاء والمرتشين واللصوص والمجرمين ضد العراقيين الابرياء اللهم إضافات دورية أشبه بالمتكررة وهي على أهميتها وضرورة الكتابة عنها لا نسميها أو نطلق عليها إلا (غيض من فيض) أما الجديد القديم فلا يمكن إيجازه بلغة هجائية أو نقدية صارمة، إذن احتلال العراق كشف عورة الذين يريدون البقاء على الوضع القائم كصمام أمان لبقائهم.2على الرغم من هذا الوهم المسمى (التحرير) والذي استشرى في السنين الماضية وحول قدرة من جاء من هذا الحزب أو ذاك على إعادة المسيرة الحياتية للعراقيين بشكل جديد قد ساقه هذا الوهم إلى ارتكاب خطيئة الظن بأنه في إمكانه أن يخلص البلاد من الظلم والظالمين بغض النظر عن مصادر الخلاص، لكن عقد الماضي ورواسب التجارب المريرة وأنظمة الاستبداد لازالت موجودة وتبرز في أنواع متجددة من الممارسات التي تنفجر بأشكال عنيفة وتفضي شيئاً فشيئاً إلى تآكل البلاد مثلما تفضي إلى تجذير الطائفية والعنصرية وتزايد حدة التناقض. إن (رئيساً) أو (وزيراً) أو (نائباً في البرلمان) أو حتى (سفيراً) غير حرّ في مجتمعه ووطنه هو شخص غير مؤهل للدفاع أو الحفاظ عن هذا المجتمع وهذا الوطن، فالوطن ليس مجرد حفنة من تراب أو راية خفاقة، على مبنى أو مكتب أو خلف مسؤول حكومي، ترنو إليها العين أو نشيد وطني يردده الناس أو يشنّف الأذن أو صورة لرئيس تغيب عن شاشة التلفاز أو شعارات واعدة غائمة على يافطات معلقة في الشوارع وعلى جانب الرصيف، الوطن أكبر وأكثر من ذلك، إنه التأريخ الثقافي الحضاري أو تراث تحنو إليه وحاضر تقتنع به ومستقبل تنظر إليه بأمل وتنتظره بصبر وعنفوان، إنه حياة إنسانية آمنة ولقمة عيش شريف وكلمة حرة طليقة لا تخشى قولها ولو كنت على خطأ وانتماء حقيقي صادق يدعو للافتخار والثقة. الوطن والمواطن كلمتان لاتفترقان أو توأمان سياميان، لا حرية ولا أمن ولا تطور ولا حياة لأحدهما على حساب الآخر، لكن الوطن اليوم هو وطن العقائد والسياسات والعمائم ودندنة التحرير التي سادت وفُرضت على الناس بالقوة والقمع أو عن طريق ادعاء التحدث الأحادي باسمها وبتمثيل مصالحها، ومن دون عودة إلى تأريخ بعيد، نستذكر من أمسنا القريب، أيام المد القومي أو اليساري أو الاسلامي وغيره، وكيف استطاعت هذه الأحزاب والايديولوجيات من أن تحول الوطن/المواطن إلى لعبة كارتونية عاجزة وخائفة وغير مؤثرة، أقول هذا ولا أدعو لاجترار الماضي فالتأريخ قد يكرر ولا يكرر نفسه، فإذا سُئلت اليوم: ما المطلوب من العراقي؟ أبادر فأقول: إن المعرفة والعلم والوعي والكلمة الطليقة الصادقة هي من أولى مهماته لطرد المحتل والدخلاء والادلاء والعمائم المزيفة.لم يعد أحد ينكر اليوم أن ثمة أزمة عراقية طويلة الأمد تنخر البلاد، فبالرغم من أن (الخبراء/المحللين) وفي مقدمتهم (تكنوقراطيو) العراق الجديد يبشّرون مرّة تلو المرّة بقرب عودة الحياة الطبيعية إلا أن خطيئة الظن أو الوقائع العنيدة لا تأبه بتفكيرهم وبهذا تبقى المشكلات الكبرى معلقة دون حل، فهل نحن أمام أزمة عابرة؟ أم إنها أزمة أكبر شمولية، ليس المجال الأمني والفساد الاداري والطائفية أو الإحتلال سوى أحد وجوهها. ان الأزمة المعنّية هنا هي أعمق من ذلك وأكثر شمولاً بما لا يقاس، إنها الأزمة العامة التي تجسدت بأنواع الخلل الشديد والمشكلات الكبرى التي برزت نتيجة الإحتلال وخلاله وقبله والتي بالرغم من كل المحاولات لمعالجتها بانتهاج مختلف الممارسات السياسية وغيرها بقيت عصيّة أو ربما تفاقمت وإذا كانت كذلك فانها تشير إلى عجز النظام القائم المنصب وضآلة قدرته الفعلية على إيجاد الحلول الملائمة للمشكلات الأساسية المتولدة من ممارسات المحتل ذاتها مروراً بأدواته الكارتونية وعليه بالتالي أن يتعايش معها ويلجأ إلى حلول جزئية أو تزيينية وإلى التزييف الاعلامي الطائفي لتغطيتها وبهذا ستستمر الأزمة طويلاً متخذة اطواراً مختلفة.’ كاتب عراقيqmdqpt