يكابد الشاعر، خلال بدايات تلمسه لأفق القول، من أجل حفر مساراته الخاصة به، أملا في تأكيد اختلافه عن باقي الأصوات الشعرية، تقليدية كانت، أم حداثية. ضمن رهان صعب، يتمثل في ضرورة التخلص من سلطة النصوص المكرسة، والسعي إلى امتلاك هوية شعرية متفردة، ومنزاحة عن السائد والمشترك. والمقصود بالمشترك هنا، هو مجمل القضايا الملحة، التي تستقطب اهتمام الخاصة والعامة، في واقع مجتمعي وسياسي معين، حيث يمكن القول، إن أكثرها حضورا في هذا السياق، تلك المتعلقة بمختلف أنماط الاحتكاكات القائمة بين الشعوب، وأنظمتها الحاكمة.
إذ ضمن هذا الإطار، تكون التجربة الإبداعية مدعوة بشكل أو بآخر، إلى التفاعل مع القضايا العامة، من منظور قوانينها الخاصة، التي ليس لها أن تتطابق بالضرورة، مع الآليات المعبر بها في الخطابات العامة. بمعنى أن التجربة الشعرية، لا يمكن، أن تكون في نهاية المطاف، إلا منذورة لفردانيتها، فور إعلانها عن تجليها نصيا، أي، حال انتقالها من فضاءات التداول المجتمعي، إلى فضاء الكتابة الشعرية، علما بأن هاجس تحقيق هذا الرهان، يلغي رهاب التوجس من احتمال التطويح بالشاعر خارج فضاءات الاعتراف. بما هي فضاءات الثوابت القارة التي تعتبر في حد ذاتها، التجسيد الرمزي لسلط قدرية، تطارد بلعنتها كل من تجرأ على الإعلان عن انحيازه إلى شعريات متمردة، وعن استجابته التلقائية والحتمية لنداءات ضوء، لا يراه أحد سواه.
وتحضرنا هنا، تلك المفارقة المؤرقة والحرجة، التي يجد فيها الشاعر نفسه على طرفي نقيض، حيث يلزمه أحدهما بالاطلاع على قوانين التجارب التأسيسية، شكلا ومضمونا، فيكون مطالبا بالبرهنة على إحاطته المفصلة والدقيقة، بتقنيات إبداع نصوص، تنال رضا الحكامة «المتخصصة» في صيانة «حرمة» الأصول، وتشفع له بتحقيق حظوة الانتماء إلى «التجارب النموذجية» التي لا مناص له من اعتمادها بوصفها قدوة في إنتاج أعماله. بينما يستدعي الطرف الثاني من المفارقة، أن يمتلك الشــاعر ذاته، شعلة اللعنة الحارقة التي لا تلتزم بأي ميثاق جاهز، عدا ميثاق الاحتفاء بقوانين خيميائيتها المضادة للسائد.
وفي أتون المفارقة ذاتها، تتعارض الخيارات وتصطدم، ذلك أن امتثال الشاعر لواجب السير على منوال النموذج، سوف يرمي بجذوة خصوصيته في مهب الريح. علما بأنه سينال مقابل هذه الخسارة تعويضا مريحا، يتمثل في انتمائه إلى محيط «النموذج» معززا ومكرما، من قبل «حماة الأصول». كما أنه وبقوة إخلاصه للمعايير السائدة، سيتوفق في استقطاب ثقة التلقي العام وإجماعه، باعتباره أحد المؤتمنين على الإرث الشعري، المطبوع بهيبة أصالته والمنزه عن شوائب كل قطيعة، من شأنها الانحراف به عن مساراته الطبيعية. وهي المسالك التي أمست بفضل ما راكمته من شعائر التبريك، شبيهة بمزارات يتقاطر على قبلتها المزيد من الأتباع والمريدين. كما أنها أمست شبيهة بمذابح، تهدر عليها دماء الشعريات المتمردة، وتجهض فيها أرواحها، كي تتخلص إلى الأبد، من لعنة اجتراحها للمسالك المرفوضة من قبل جمركيي الكتابة، ومخبريها.
لكن أحيانا، وبفعل يقظة معرفية، قد تحدث في آخر لحظة من ليل الكتابة، سيكتشف الشاعر الذي سلخ أجمل سنواته في تعقب شبح النموذج، أن شمس حياته مشرفة على الأفول داخل رطوبة المزار، حيث لم يعد ثمة من حلم، عدا أمل النجاة بما تبقى، بعيدا عن كراسي الوصاية، عساه ينعم برؤية طيف قصيدة ظلت على امتداد عمره طي التأجيل.
وفي السياق ذاته، نشير إلى ظاهرة استهداف النصوص المرجعية، ذات العمق التأسيسي، بالاستنزاف، جراء اعتمادها من قبل الباحثين عن هويتهم المفقودة، نموذجا مثاليا لمحاولاتهم. ما يؤدي إلى ابتذال شعريتها، وتجريدها تدريجيا من طاقتها، ومن مقوماتها الفنية والجمالية.
حلم، أو أمل، سيظل حتما مؤجلا، بحكم طول الأزمنة التي سوف تستوجبها عملية التخلص من تداعيات التبني الأعمى لشعرية النموذج، خاصة بعد تجذرها في الدواخل على هيئة زعانف، يؤدي اقتلاعها إلى إحداث غير قليل من التقرحات والتشوهات التعبيرية في سحنة الكلام، بفعل استمرارية تردد أصداء المرجعيات الأصلية بين أرجائها. ومن المؤكد أن القيمة الجمالية للشعر، تكمن في قدرة الموقف الواحد، والحالة الواحدة، على إنتاج ما لا حصر له من البنيات التعبيرية، انسجاما مع خصوصية التفاعل الجمالي، الحاصل بين التجربة وموضوعها، الذي على أساسه يتمظهر الشيء على هيئة نص شعري. بهذا المعنى، يمكن القول، إن القيمة الجمالية للكتابة الشعرية، تكمن في تعبيرها عن جوهر القول الخاص بكل تجربة على حدة، أسوة بالملامح الفيزيولوجية المتميزة بتعددها وتنوعها، رغم علاقات التشابه القائمة بينها. متيحة بذلك، إمكانية تمييز ملامح الحق عن البهتان. فرغم احتمال سيادة سلطة القاسم المشترك بين التجارب الشعرية، إلا أنها ومع ذلك، تظل محتفظة بالحد الأدنى من استقلاليتها، عبر توسيعها لهامش الحرية، باعتبار أن هذا التوسيع، هو المصدر الموضوعي لفعل الاختلاف، الذي قد يتجاوز مداه أحيانا، كي يرقى إلى مستوى الإبداع الخلاق والرفيع. عموما، يبقى المنتظر من خصوصية كل تجربة شعرية، فوزها بلعنة نقدية، تكتسب من هباتها إيقاعات نبضها الخاص. بما تعنيه كلمة اللعنة هنا، من خروج على الأعراف المتكلسة، واستشراف لآفاق جديدة غير مطروقة. مع الإشارة إلى أن الشاعر المغتبط بنعمة هذه اللعنة، قد يتحول هو أيضا، إلى سلطة متعالية، رافضا فكرة مضايقته بملاعنة جدد، يتقاسمون معه ضوء الإثارة، وحظوة الفرادة والاختلاف. كما لو أن الأمر يتعلق باحتكار نرجسي لفضاء اللعنة، الذي يلتئم فيه شمل الشعراء الاستثنائيين. في ضوء هذه الإشارات، يمكن الجزم بندرة التجارب الشعرية الحقيقية، المنفلتة من سلطة النموذج، ومن بؤس تعاليمه. ورغم الخبرة المتقدمة التي قد يمتلكها بعضهم في طمس أثر الاحتذاء، إلا أنهم يظلون مطاردين بأرواحه، وأشباحه. تلك التي لا تلبث أن تميط عنهم حجاب نقائهم الوهمي، حيث تدرك القراءة المتفحصة لنصوصهم، أنها بصدد محاورة النصوص المرجعية ليس إلا، إما في شقها التقليدي أو الحداثي، دون أن تفضي معاينتها لبعض الاختلافات العرضـــــية التي يحدث أن تتخللها، إلى إقناعنا بجدتها، أو بانتمائها إلى مدونة لعنة جمالية، مستقلة بأسئلتها وبآفاق انتظارها.
وفي السياق ذاته، نشير إلى ظاهرة استهداف النصوص المرجعية، ذات العمق التأسيسي، بالاستنزاف، جراء اعتمادها من قبل الباحثين عن هويتهم المفقودة، نموذجا مثاليا لمحاولاتهم. ما يؤدي إلى ابتذال شعريتها، وتجريدها تدريجيا من طاقتها، ومن مقوماتها الفنية والجمالية. وفي اعتقادنا أن هذا الضرب من التماهي، الذي عانت منه أغلب عصور القول الشعري، هو أحد العوامل المؤثرة في تلاشي وانمحاء الكثير من الشعريات، نتيجة تعرضها للتشويه من قبل حشود، تصدق عليها صفة المفسدين في الشعر. أولئك الذين ينخرطون زرافات ووحدانا، في البحث عن منابع القول خارج ذواتهم، بصيغة سطو، قوامه منهجية «تناص» جمالي أنيق ومحكم. كما أنهم، ومن فرط تهافتهم على التماهي الفج مع الشعريات الأساسية، يعجلون باختناقها، كي تحتجب تدريجيا تحت حوافر استنساخات، تسحق بقايا ما كانت تتمتع به من ألق.
في ظل هذا الواقع المشوب باحتمالاته، سيكون من الضروري الاقتناع في حاجة المشهد، إلى ملاعين مستقبليين، يمتلكون ما يكفي من نفاذ البصيرة، ومن دينامية القول، ما يهيؤهم للمضي بضوء الشعر، صوب تلك المدارات اللامرئية، حيث تفيض الينابيع مدرارة بشعرياتها المختلفة، وقد بدت محفوفة كما العادة، بأسرار لعنتها، دون أن تتخلص من حوافر المفسدين.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
هذا كلام شاعر دخل في التجربة ويلم بتفاصيلها لكن السياق العام المطروح هو ذاته في سياقات القرن السادس والسابع عشر في التجربة الأوربية