أصبح أمرا مألوفا الآن أن يجد المتلقي العادي نفسه، في أي مكان في العالم، حائرا ومستغربا، بل أيضا منزعجا، وهو يقف أمام كم هائل من الأعمال الفنية المعاصرة التي تنأى بنفسها عمّا يمكننا أن نصفه بالجميل. ولربما توقف لبرهة متسائلا: ما هذا؟ ثم لا يلبث أن يمضي الى حال سبيله لأن الأمر ليس على قدر من الأهمية بالنسبة له. لكن هنالك، بالفعل، من يتفاعل مع ذلك (اللاجميل) ويُظهر قدرا من الاهتمام والرغبة في سبر أغواره، ربما بدافع الفضول المعرفي، أو كمحاولة للاندماج في الفضاء المسرحي لطقوس العرض في الصالات والمتاحف، حيث يختلط الجدل الثقافي الجاد بالرياء الاجتماعي، ومحاولة البعض الولوج إلى الدوائر المغلقة التي يتمترس داخلها البعض الآخر. وأزعم أنه في فضاء غامض كهذا، ينشط هؤلاء الذين يتقمصون أدوار الوسطاء بين العمل الفني والمتلقي، إذ يتفننون في إظهار مهارتهم في الأداء المسرحي ومهارة الكلام، علهم بذلك ينالون نصيب استمالة المتلقي الذي يبدو تائها وتواقا الى أن يفقه شيئا من شطحات الفنان وهذيانه.
لكن، هل ينبغي، أصلا، أن يكون العمل الفني جميلا؟ سؤال قديم اجتهد الأوائل في الإجابة عليه، بيد أن المحدثين تيقنوا أن الإجابة لن تكون قطعية. وتيقنوا أيضا من أنهم عاجزون عن صياغة تعريف لماهية الجميل وكيفية تمييزه عن القبيح.
دون شك، أن لهذه الحيرة مقدمات فلسفية، ربما نتمكن من تعقب جذورها في فكر القرن السابع عشر في أوروبا، مع بزوغ فلسفة ديكارت وسبينوزا وليينتز وعدد كبير من الفلاسفة ممن انتصروا لمبدأ المحاججة العقلية والشك! وقاد ذلك في ما بعد إلى الخوض، على نحو أكثر عمقا، في طرح أسئلة أكثر تعقيدا، مع ظهور أفكار الوجوديين ومن جاء من بعدهم، بعد أن مهد نيتشه لمرحلة ما بعد موت الإله والانفتاح على أفق العدمية. وقبل ذلك كان الفنان في أوروبا قد ارتقى ليصبح أكثر من مجرد حرفي صانع للصور، إلى مُنتِج للفكر وصانع للسردية البصرية التي لا تقل تأدبا وأهمية عن الألوان الأخرى للمُنتَج الأدبي، كالشعر والنثر والدراما. وظهر متلقون وداعمون يستندون في فهم وتفسير العمل الفني وتفاصيله إلى مرجعيات رمزية وأيكونوغرافية، ونصوص ميثولوجية ودينية وأدبية، وربط ذلك على نحو ما بقصدية الفنان.
ومثير للاهتمام أن الفنان، في تلك الحقبة، أصبح جزءا أصيلا من عمله، يحظى بأحقية أدبية ومعنوية نظير إنتاجه الفني. تَعمّدَتْ هذه المكانة الاجتماعية والثقافية للفنان في مناخات عصر النهضة، أكان في جنوب القارة الأوروبية أو شمالها. ومن حينها أصبح الفنان مساهما فاعلا في التحول الثقافي والجدل الفكري الذي ظل محتدما إلى يومنا هذا، بل اتسم هذا الجدل الآن بالتعقيد واتخاذ مسارات أكثر تشعبا وتداخلا! لكن أثناء تلك البدايات، التي يمكن أن نصفها بالبريئة، لم يتجرأ الفنان، الذي ارتقى لتوه ليصبح مُنتِجا للفكر، في أن يخدش قدسية الجميل. ذلك الجميل الذي يدركه المرء ويتعرف عليه عن طريق الخبرة المباشرة والفطرة تماما، كما يفعل عند تناوله لقطعة حلوى وينتشي للذة مذاقها. وإن كانت هناك، بالطبع، تباينات في ألوان الذائقة بين الأقوام والشعوب، على طول الامتداد الجغرافي للعالم.
السؤال هو: هل يتعمد الفنان المعاصر تقديم أعمال تتبرأ ظاهريا من الجمال؟ أم أن الأمر يتم بتلقائية ونقاء سريرة ودون قصد منه، بل ظنا أنه يقدم فنا جميلا؟
لفهم هذه الأسئلة ينبغي علينا أولا أن نعقد اتفاقا مع ذواتنا حول المعيار الذي نقيس به مقدار التقارب والتباعد بين ما هو سيئ وما هو قبيح، وكذلك أيضا، كما يذهب إليه آرثر دانتو، ما هو مقزز. ربما يكون السيئ نتاجا طبيعيا لعدم امتلاك الملكة الفنية والموهبة. وقد يقود ذلك بالضرورة إلى خلق أعمال فنية يراها البعض قبيحة. والنماذج التاريخية لهذه الحالة قد تقودنا إلى النتاجات الشهيرة للفن الساذج، أو ما يعرف بـNaïve art و Outsider art ولعل هنري روسو حقق الريادة على هذا الصعيد. ولا ننسى هنا أن نذكر أن الفن السيئ قد كان موضوعا لمعرض جماعي شهير بعنوان اللوحة السيئة، رعاه في فترة السبعينيات من القرن الفائت المتحف الجديد للفن المعاصر في نيويورك. وكانت قيّمته آنذاك الناقدة مارسيّا تَكر. عنوان المعرض على بساطته يلخص على نحو بيّن طبيعة الأعمال المعروضة وإلى أي صنف تنتمي. وعلى الرغم من أن العنوان يتسم بالصراحة في ظاهره، إلا أن في باطنه ربما يكون هناك الكثير من الإيحاءات والمطامح غير المعلنة. إذ نجح المعرض في تكريس فكرة السيئ على أنه فن اكتسب شرعيته ويمكننا الآن تذوقه، بل الاستمتاع بنكهته وهضمه بيسر، فغدت تلك الأعمال السيئة جميلة باعتراف مجتمعي وضمنت مكانها في تاريخ الفن. يُرجع بعض النقاد ومؤرخي الفن سبب النزوع الفاضح نحو القبيح في الفن، إلى الأهوال التي عاشتها البشرية، جراء الحربيين الكونيتين وما تبعهما من تدمير للبنية الأخلاقية والاختلال في ميزان الذائقة، وإحداث طفرة قهرية مفاجئة في نمو الوعي الجمعي للإنسان، تماما كما يحدث للفرد عند انتقاله من الطفولة إلى البلوغ في محيط اجتماعي مضطرب. وهنا أستحضر إسهامات الفنان أوتو دكس الذي عُرف بانشغاله في اكتشاف جماليات القبح. وهو الذي شارك محاربا في الحرب العالمية الأولى، وقيل إنه عندما كان يقاتل في الجبهات، كان زاده الفكري الوحيد هو مؤلفات نيتشه والإنجيل.
ثنائية الجميل والقبيح في الفن الحديث هي مجاز للخير والشر. ولعلها أصبحت مخبارا حراريا يُنبئونا مؤشره الى أين نحن ذاهبون!
كاتب يمني