الكتابة الشعرية في المنطقة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي اندفعت في اتجاه تجديد القول الشعري شكلا ومحتوى، ابتدأ من تجارب الرواد الأوائل السياب والملائكة والبياتي، ومن عاصرهم من أسماء ومن جاء بعدهم، فقد شهدت تجارب مختلفة أخذت «تنطق برؤى جمالية ومقولات فلسفية، وأخرى تعبر عن وجدانات إبداعية» مثلما أشار رضا عطية في مقدمته التي خص بها كتاب الناقد العراقي المقيم في مصر عبد الوهاب عبد الرحمن «التجربة والأثر.. قراءات في شعر الحداثة وما بعد الحداثة» الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة كتابات نقدية، وقد سعى عبد الرحمن إلى أن يتناول تجارب لها مذاقات شعرية متنوعة، لاستكناه منظومة العلامات التي تنتجها، وتجعلها تترك أثرا خاصا عند المتلقي، بما يميزها عن غيرها من الأصوات الشعرية التي تحتشد في المشهد الشعري العربي.
أنماط كتابية
اتخذ الناقد في مقارباته أسماء تنتمي إلى أنماط كتابية تتوزع بين قصيدة النثر والشعر اللاتفعيلي والشعر التفعيلي، لتأكيد وجهة نظره القائمة على تقيم جماليات التجربة دون التوقف عند التقعيد الوزني أو ما يخالفه، فالمعني بالنسبة له حضور الشعر في النص، سواء كان موزونا على الطريقة الخليلية، أو مستغنيا عنها. وفي إطار ما اتبعه منهجيا في قراءاته النقدية بدا عبد الرحمن حسب رؤية عطية مراوحا بين مفهومين متلازمين: التجربة بوصفها الخبرة الموضوعية بأبعادها المادية الحياتية والتاريخية والاجتماعية، وفق سياقها المحايث، والنفسية الغائرة، والأثر بوصفه نتيجة تفرزها التجربة .
ومثلما أشرنا فإن الأسماء التي توقف عندها تنتمي إلى أجيال شعرية مرت بقوة حضورها الفني في خريطة الشعر العربي المعاصر، بدأ بالشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، الذي يعد آخر وأبرز الأحياء من جيل الخمسينيات (مواليد 1935) وما يزال رغم تقدمه في السن يواصل الكتابة. اختار عبد الرحمن قصيدة «مرثية لاعب السيرك» التي تعد واحدة من أشهر قصائد حجازي، وهنا يستذكر ما كتبه حجازي في مقدمته عن الشاعرة البولندية فيسوافا سيمبورسكا، الحاصلة على جائزة نوبل عام 1996عندما أشار الى وجود مشابهات قوية بين بعض قصائدها مثل قصيدة «لاعب أكروبات» وبعض قصائده، وهنا يتبدى مسعى الناقد عبد الرحمن إلى أنه لا يكتفي في مقارباته النقدية للنصوص الشعرية بمعاينة ما قد يلوح على سطح النص من دلالات، إنما ينقب في البنى التحتية للنصوص، ساعيا لالتماس صلات لها بنصوص أخرى تتعالق بها بوشائج ضمنية وترتبط بها بخيوط خفية.
سعدي يوسف واغتراب الشاعر
من شعراء الخمسينيات الذين تناولهم الكتاب، الشاعر العراقي سعدي يوسف، في محاولة جادة لتأشير ما تتضمنه تجربته الطويلة والثرية من بنية فنية، حافلة بتحولات مهمة في سياق النص الشعري العربي الحديث، وسعدي في ديوانه «طير الحدأة» الصادر عام 2012 يمثل اغتراب الشاعر بعيدا عن وطنه الأول، وما تركته تجربة الاغتراب من تأثيرات سيسوثقافية على الشاعر ومنجزه الشعري. ويرى أن يوسف يؤسس لمعادلات حداثية تمثل عناصرها علامات شديدة الكثافة والتجاوز، تقلص المسافات التي أبعدته عن وطنه العراق، بتشكيل نص شعري يحيل أزمات غربته بأثر رجعي، يتحول فيه الماضي إلى حاضر مسكون بالقيم ذاتها، التي أورثته تلك العزلة، لتدفع به خارج الزمن وهو يعاني من عبودية المكان. ويضيف عبد الرحمن أن يوسف ألبس الواقعة الحقيقية أثوابا متعاقبة من الوهم، وهو يعتقد أن الصدق بحاجة كيما يستمر إلى دلالات كاذبة، ذلك الكذب القابل للتصديق.
أمل دنقل ودرامية الكتابة
ثم يتوقف في قراءته عند تجربة جيل الستينيات المصريين، فيختار أمل دنقل، ويرى في تجربته أنه في تمثله للتراث شعريا يذكرنا بطائر العنقاء، الذي ينبعث من رماد الزمن، ودنقل يهتم بفعل الكتابة (بدراميتها) وليس بشكلها، والفعل عنده يعني استمرار الحدث لا تجميده، فليس في شعره حدث محسوم أو نهايات قاطعة أو مشروع مكتمل، لذا فهو لا يجتر وقائع ويهيِّئ لها إطارا حداثيا، بل يعمد إلى إعادة خلق الواقعة كما تحتمه ضرورة التواصل معها شعريا، بتجريدها من هيمنتها وسلطتها، ليضعها في صيرورة خارج دائرة معطياتها التراثية، وخارج قداسة الخطاب وسلطة الشمول والكلية، وأحيانا يجرد الواقعة التراثية من زمان ومكان حدوثها وأسبابهما، فالأحداث والوقائع تأخذ دائما شكلا خاصا ومؤقتا لصراع ما يفتأ يتكرر.
محمد أبوسنة وتشفير النص
من شعراء الستينيات يختار الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، ويرى في تجربته أنه يعرف كيف يشفّر نصه دون حاجة إلى إحالة أو تضمين، فالغامض في شعره دلاليا، واضحا تمام الوضوح شعوريا، ما يبدو أكثر ميلا إلى الإحساس بالشعر أكثر من الوعي به، بما يشبه تجليات الصوفي، الذي يستبطن ما هو محجوب، وذلك بإحالته إلى إشارات حسية تتجاوز الوعي في اتجاه ظلال موحية بوجود متعدد، تقبل التأويل وتمتد إلى ما وراء المحسوسات، فهو يشرك بحدسه حدس القارئ، مقيما معه حوارا كشفيا تصدر عنه معان ناقصة أو مرجئة، لا تكتمل ولا تتحقق بصورة كاملة، لأن هناك دائما غير معنى مؤجل.
الجيل السبعيني المصري
ثم يقف عند تجارب ثلاثة شعراء من جيل السبعينيات، في مقدمتهم المصري عبد المنعم رمضان في ديوانه «الحنين العاري» فيرى أنه شاعر رائي يحاول أن يخترق أزمانا لا وجود لها، وهذا النوع من الشعراء يحمل آثارا من رؤى حلمية، تجعل من النص «علامة مرتحلة أبدا «حسب جاك دريدا، رؤى تختزل كلية التكوين بلحظة حلمية تعكس تجربة الأثر النصي بتجربة التلقي، فللشعر طقوسه ويوتوبياه، لأن منشأه «تكفيري وقرباني» متخذا من الحلم هرمونا شعريا ينشط بفعل التنافذ بين الذات والتجربة، بتماه يتمثل في» الصيرورة أكثر مما يتمثل في الفهم «حسب بول فاليري، بمعنى استمرار القراءة باختلاف مستوياتها الدلالية، وفي عرض لآنية الحقيقة التي هي ليست كل الحقيقة، ولنص رمضان حضور تأشيري كثيف لرموز تأريخية وأسطورية.
وفي معرض قراءته لتجربة الجيل السبعيني أيضا، اختار الشاعر محمد سليمان عبر قراءة نصه الشعري «الطائر بجناحي إيكاروس» ويجد في منجز سليمان مقدمة أساسية تثير تساؤلا عن موقعه بين الحداثيين، فهل يضعه بمعيار الأفضل من بينهم، أم المختلف عنهم؟ فخصوصية شعره تجعلنا نتلقى منجزه ذي الزوايا الحادة، كمركب أزمة تتنازعه التجربة «الرؤيا» والدلالة «التأثير» عبر حالة تنافذ أو محايثة بينهما، ويرى في نصه أن الشعر وحده البارع في مراوغة ممكنات الدلالة بالتعبير عن المسكوت الكامن في طوايا النص الشعري، المنفتح على تعدد احتمالات القراءة، بما يرشح من وعي القارئ وقدرته على إنتاج المعنى، من خلال محور استبدالي تتغاير فيه المعاني ومقاصدها في تبادل مطرد للمواقع.
تجارب عربية في قصيدة النثر
أما عند تناول الكتاب لعدد من التجارب الشعرية العربية، التي انساقت في إطار قصيدة النثر فيتعرض لأسماء مثل، وديع سعادة اللبناني والسورية سنية صالح والمصري أحمد طه، ومن جيل الثمانينيات الأردني موسى حوامدة ، أما من جيل التسعينيات فيختار ثلاثة شعراء عماد أبو صالح وجيهان عمر وجرجس شكري.
أهمية الإصدار، أنه يتتبع تجارب شعرية عربية مختلفة، تتجاوز في نصوصها ما هو كائن ومنجز في المشهد، متحركة في فضاءات جمالية كل فردية، والناقد عبد الوهاب عبد الرحمن في كتابه هذا يعيد إلى دائرة الاهتمام أهمية النقد عندما يمتلك أدواته المنهجية في تفكيك النص الشعري، واختراق الأزمنة الخفية التي تنضوي بين دلالاته.
كاتب عراقي