عادت إحدى متغيرات العلاقات الدولية لتطبع هذا العام الجديد، في ما كنا غيبناها من ذاكرتنا، لكن هذه المتغيرات لم تقتصر، من جهتها، في إثبات نفسها بقوة على ساحة دولية تفتتح من الآن فصاعدا حتما عهدا جديدا.
لقد أعلنت إيران عودتها إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المئة، بينما أعربت كل من ألمانيا وفرنسا من جهتهما استنكارهما للخطوة في بيان مشترك،
إعلان من جهة، بيان من جهة أخرى. فهل تقول القراءة التحليلية إننا عدنا إلى حوار الطرشان؟ لا أعتقد ذلك، خاصة أنه منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولايته، لم يكن هناك حوار أصلا. وكأن تقليدا دبلوماسيا جعل الملف الإيراني ملفا أوروبيا، تقليدا أرخت له اتفاقية فيينا سنة 2015. لكن ما الذي حدث منذ ذلك الوقت؟ حدث الأمر الطبيعي، الروتيني، الاعتيادي، لا أكثر.
بعض الخروقات، كالعادة، بعض زيارات المفتشين الدوليين، كالعادة، لأماكن يحددها النظام، كالعادة، حدثت بعض الوقائع حاول أصحابها ترقيتها إلى مستوى الدولي، كبناء مفاعل نووي ثان في محطة بوشهر للطاقة النووية، بدعم روسي، كالعادة. وقد ينظر كثيرون إلى العودة إلى التخصيب بوصفها «عادة من العادات» وليس أكثر. لكن السياق مختلف، السياق مختلف بمغادرة دونالد ترامب الإدارة الأمريكية وقدوم جو بايدن. وهنا تقف إيران في المنعرج، وفي مسعى حثيث آخر: مسعى «كسر العادة» بعبارة أخرى، تحقيق اختراق يمكن إيران من قلب الموازين، بكيفية تثبت أن العالم بات متعدد الأقطاب فعليا لا ورقيا. للعودة إلى تخصيب اليورانيوم هذه المرة أكثر من دلالة، ليس مجرد دلالة سياسية، وليس مجرد دلالة دبلوماسية، إنما دلالة تكتيكية. تبعث إيران أولا رسالة أن دور «الحليف التقليدي» الذي رأت أوروبا نفسها تتقمصه لم يعد جديرا بالثقة. تبعث إيران ثانيا رسالة مقابلة إلى جو بايدن، مفادها، أن ثمة مكانا شاغرا لبناء صرح دبلوماسي جديد.
عودة إيران إلى تخصيب اليورانيوم أكثر من دلالة، ليس مجرد دلالة سياسية، ولا مجرد دلالة دبلوماسية، إنما لها دلالة تكتيكية
كل السؤال المطروح هنا: ماذا ستفعل الإدارة الجديدة في إيران، وهو سؤال يحتمل صيغة أكثر شخصية: ماذا سيفعل جو بايدن بإيران، فقلب الرهان معرفة إن كان بايدن، بحكم تجربته نائبا لرئيس الولايات المتحدة سابقا، وأيضا سابقا في لجنة الشؤون الخارجية في حزبه، سيطبع سياسته الخارجية بطابع خاص يحقق فيه اختراقا يقطع مع التقاليد الدبلوماسية للإدارات الأمريكية المتعاقبة؟ أم سنستمر في إجراء روتيني عودتنا عليه الإدارتان الجمهورية والديمقراطية سواء بسواء.
وهنا بيت القصيد، الكل ينتظر بقدوم بايدن مجيء الفرج بعد الشدة، لكن أي فرج؟ في نهاية المطاف، وحده ترامب حقق «اختراقات» في تاريخ أمريكا الأخير، وعندما نضطر إلى وصف أداء ترامب بالـ«اختراق» (هناك من يرى في تدبيره الاقتصادي للشؤون الداخلية اختراقا فعلا، قوضه الباقي) فهذا يعني أن السياسة الأمريكية سجينة معايير زمن الثنائية القطبية التي لم تتح فرصة لقراءة أخرى غير القراءة المعهودة، القراءة من زاوية «الإمبريالية الرأسمالية» أي بعبارة أخرى، من زاوية المصطلحات القديمة، والعالم القديم. لقد دخلنا عالما متعدد الأقطاب، وأكثر من يعلمه جو بايدن نفسه.
الحضارة الإيرانية قديمة عريقة ثرية، ومنارة العلم تشرق هناك في أكثر من مكان، لكن أي إشراق لعالم متعدد الأقطاب يمر عبر الثقة والحوار والمشاريع المشتركة، وليس مجرد المصالح. فهل من مجيب لنداء ملح؟
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
إيران ستملك السلاح النووي بعهد بايدن الذي يحب إيران أكثر من الإيرانيين أنفسهم واكثر المؤيدين لمشانق الملالي وإرهاب الحرس الثوري بالعراق وسوريا ولبنان