التداعيات السياسية لاعتقال الصادق المهدي

تعرفت على السيد الصادق المهدي قبل عدة عقود عندما كنت أقدم برنامجا تلفزيونيا بعنوان عالم الفكر، وقد لفت نظري في ذلك الوقت تواضعه وسعة أفقه، ولم يكن ذلك غريبا على شخص تخرج من جامعة ‘أكسفورد’ ويحمل درجتي البكالوريوس والماجستير في الاقتصاد والسياسة، والذين يتتبعون سيرة السيد الصادق المهدي التعليمية يرون أنه كان انتقائيا في اختيار نوع التعليم الذي يريده، و ما يهمنا الآن هو كيف هيأ الصادق المهدي ذهنه من أجل المشاركة القيادية في العمل الوطني.
ولابد أن نبدأ هنا من حقيقة أولية، وهي أن الصادق المهدي لم يدخل إلى عالم السياسة من بابها الطبيعي، بل دخل إليه من حقيقة كونه حفيد الإمام المهدي الذي هو في نظر السودانيين باختلاف توجهاتهم بطل قومي استطاع أن يقود ثورة في نهاية القرن التاسع عشر ضد الحكم التركي وتمكن من أن يحرر بلاده من ذلك الحكم الذي استمر أكثر من ستين عاما.
وعندما نال السودان استقلاله كانت طائفة الأنصار التي دعمت ثورة المهدي هي إحدى طائفتين تسيطران على المشهد السياسي في السودان، ولكن ذلك لم يستمر طويلا بسبب الانقلابات العسكرية التي قادها الفريق ابراهيم عبود، والرئيس جعفر نميري، وسوار الدهب وأخيرا الرئيس عمر حسن البشير في انقلاب الإنقاذ.
ولم يختلف المشهد السياسي بالنسبة للسيد الصادق المهدي فقط من خلال الانقلابات العسكرية، بل أيضا من خلال التطورات التي حدثت في السودان مثل ثورة الجنوب والثورة في إقليم دارفور التي أثرت كثيرا على حزب الأمة الذي يقوده الصادق المهدي على نحو خاص، ذلك أن المواطنين في دارفور لم يعودوا يتطلعون إلى الحكم في الخرطوم بل أصبحوا يتطلعون إلى إقامة دولتهم الخاصة بهم، وأثر ذلك بالطبع على الوضع السياسي للسيد الصادق المهدي، لأن الدعم لحزب الأمة كان يأتي في الأساس من دارفور، ولكن ذلك بكل تأكيد لم يقلل من أهمية السيد الصادق المهدي في المشهد السياسي السوداني لأن معظم السودانيين لا ينظرون إلى الصادق المهدي فقط كزعيم لحزب الأمة بل كقائد وطني له رؤيته الخاصة التي يتحمل مسؤوليتها دائما, وبالطبع ينظر هؤلاء إلى مواقف الصادق المهدي من حكم الإنقاذ، وكان الصادق أول من رحب بدعوة الحوار التي نادى بها الرئيس البشير في إحدى المراحل، وقال المهدي في تبرير قبوله بهذه الدعوة إنه يقف مع دعوة الحوار لأنه يعتقد أن إسقاط النظام بالقوة أو الثورة الشعبية لن يحقق الأهداف الوطنية، لأنه لا ضمان لأن يأتي بهذا الطريق نظام حكم يرضى عنه الجميع، كما أن الثورات قد تخلف آلاف الضحايا من غير مبرر معقول، ورأى الكثيرون في موقف الصادق المهدي عقلانية يحتاجون إليها، ولكن الصادق المهدي انتظر فترة طويلة ولم يتحقق الحوار المنشود، ولا يتحمل النظام وحده المسؤولية لأن الكثير من القوى الشعبية صرفت النظر عن هذه الدعوة واعتبرتها مجرد حنكة يستهدف بها النظام ضم كثيرا من القوى الشعبية تحت مظلته.
وعلى الرغم من مواقف السيد الصادق المهدي الإيجابية فقد أصدرت السلطات السودانية قرارا باعتقاله وأعقب ذلك قرار من مدير جهاز الأمن الوطني بنشر ثلاثة آلاف جندي حول العاصمة السودانية تحسبا لما قد يحدث من اضطرابات نتيجة هذا الاعتقال، ولا شك أن الصادق المهدي لن يكون مسؤولا إذا تحركت قوى تعارض اعتقاله، لأن هذا أمر طبيعي في مثل هذه الظروف. ونسب إلى الصادق المهدي أنه حذر من أن يحدث سيناريو سوري في السودان، وحتى لو صدق أن ذلك ما قاله الصادق المهدي فلا أعتقد أنه تهديد، بل هو في حقيقة الأمر يتماشى مع حرصه على أن يسود الأمن والاستقرار في البلاد، ولا شك أنه من حق الصادق المهدي وأي مواطن آخر أن يحذر من أخطار قد تلحق بالبلاد، ولا يحتم ذلك أن يعتبر ما يقوله المحذرون تهديدا لأمن الوطن، والمؤكد أن السيد الصادق المهدي حذر مؤيديه من القيام بأي أعمال عنف لأن ذلك قد يقود البلاد إلى نموذج سوري وليس في ذلك ما يضر النظام، بل هو بكل تأكيد تحذير من مواجهة النظام بمثل هذه الأعمال.
ومن جانب آخر أعربت قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم أنها تعتزم تقديم السيد الصادق المهدي للمحاكمة، ووصفت مواقفه من النظام بأنها إهانة للسلطة وأنها تستوجب حكما رادعا، قال البعض إنه قد يصل إلى حد الإعدام، ولا شك أن الصادق المهدي لن يقدم من الناحية العملية إلى مثل هذه المحاكمة، لكن مجرد ترديد مثل هذه الأقوال قد لا يكون مناسبا في حالة زعيم وطني في حجم الصادق المهدي.
وفي النهاية لا بد من الدعوة إلى الحكمة التي تقتضي ألا يتبع النظام في السودان النماذج التي سادت في كثير من أنحاء العالم العربي، ذلك أنه على الرغم من أن نظام الإنقاذ جاء بانقلاب عسكري، فهو ليس نظاما عسكريا بالمعنى التقليدي لهذه الأنظمة، بل هو نظام سوداني تشارك فيه جميع العناصر، وبالتالي حين يطالب البعض بتغيير شكل الحكم عن طريق الحوار فإن هذا لا يؤثر على القوى ذات النفوذ التي يمكنها أن تجد لنفسها وضعا في أي نظام يمكن الاتفاق عليه، والمطلوب هو فقط عدم اللجوء إلى المواجهات غير المبررة والتوجه دائما إلى لغة الحوار التي هي جزء من الإرث السوداني.
وقد أعرب حزب الأمة عن رفضه اعتقال زعيمه وقال في بيان أصدره أن الحكومة بهذا العمل الذي سماه استفزازيا تتخلى عن لغة الحوار وتعود إلى المربع الأول. واعتبر البيان أن اعتقال الصادق المهدي غير دستوري، ومن جانبها تقول السلطات السودانية بحسب ما أورده جهاز أمن الدولة إن الصادق المهدي انتقص من هيبة الدولة وشوه سمعة القوات النظامية وألب المجتمع الدولي على البلاد.
ومن السهل على السلطات أن تصدر مثل هذه الادعاءات ولكن هل من المصلحة العامة إثارة مثل هذه النزاعات التي لا طائل من ورائها؟ الإجابة بكل تأكيد لا، وذلك ما ستسفر عنه .

‘ كاتب من السودان

د. يوسف نور عوض

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية