التدخلات الخارجية والقانون الدولي: نماذج من سوريا وليبيا واليمن

لننطلق من بند أساسي في القانون الدولي، يتعلق بالعلاقات الدولية يمنع أي تدخل في شؤون الدول المستقلة ذات السيادة، بنص من أحكام ميثاق الأمم المتحدة ورد ذكره في البند السابع من الفصل الأول الذي يقول: «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ «للأمم المتحدة» أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي ‏لدولة ما». فالعلاقات الدولية بين الدول تقوم على أساس المساواة في المعاملة والواجبات، واحترام الاستقلال والسيادة، والتعاون الإيجابي والالتزام بحل النزاعات بالطرق السلمية.

أنواع التدخل

لكن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول لم يحترم دائما. وهناك ثلاثة أنواع أساسية من التدخل: تدخل مسموح به بإذن الدولة المستقلة، وبدعوة منها وتنسيق معها، وتدخل ممنوع، ويتم دون إذن الدولة أو التشاور معها، وقد يصنف هذا التدخل ضمن جريمة العدوان، وهناك تدخل ثالث مفوض من الأمم المتحدة، تحت مبدأ «مسؤولية الحماية» لحماية أو إنقاذ المدنيين من المجازر.
التدخل غير الشرعي أو بدون أي تفويض حدث مرارا وتكرارا من الدول الكبرى، خاصة عندما ترى مصالحها تهدد، أو قيام نظام حليف لها بالانحراف عن النهج. لكن حدثت تدخلات دولية ضد أنظمة حكم دموية، بدون تفويض، ولكن دونما اعتراض واسع، والأمثلة كثيرة: الهند تدخلت في شرق باكستان عام 1971 لتوقف مجازر الجيش ضد البنغاليين وحزب مجيب الرحمن «رابطة عوامي»، الذي كان يقود حركة انفصال باكستان الشرقية عن الغربية، وبسبب هذا التدخل قامت دولة بنغلاديش واعترف بها. ودخلت فيتنام أراضي كمبوديا عام 1978، بدون تفويض لتوقف مجازر الخمير الحمر ضد الشعب الكمبودي، وأسقطت نظام الموت بقيادة «بول بوت» المدعوم من أمريكا، وظل معترفا به لسنوات بعد سقوطه. تنفس العالم الصعداء لسقوط ذلك النظام، لما ارتكبه من مجازر ذهبت بربع الشعب الكمبودي. كما دخلت تنزانيا في يوغندا بدون تفويض، وأسقطت نظام عيدي أمين الدموي عام 1979، الذي فر إلى السعودية. هذه عينة فقط من التدخلات غير الشرعية التي لها تبريرات أخلاقية، تجسدت عام 2005 في وثيقة دولية تدعى «مسؤولية الحماية».

التدخل الشرعي ـ تفويض من الأمم المتحدة

يرجى الانتباه أننا لسنا هنا في جدل هل كان التدخل صائبا أو خاطئا، بل نتحدث عن الجانب القانوني. التدخل الشرعي في شأن داخلي للدولة المستقلة هو ما تم بدعوة رسمية من السلطة الشرعية المعترف بها، أو بتفويض من الأمم المتحدة. فالنوع الثاني مثل التدخل الدولي في الكويت لإعادة الشرعية بناء على قرار 678 (1990) الذي فوّض استخدام القوة، أو تدخل الناتو في ليبيا عام 2011 الذي اعتمد في قرار 1973 (2011). كما أن تدخل الولايات المتحدة وبريطانيا في شمال العراق في إبريل 1990 جاء بعد اعتماد القرار 688 (1990) بهدف إعادة أكثر من مليوني كردي فرّوا من شمال العراق إلى إيران وتركيا. وقد حدثت تدخلات أممية مفوضة في سيراليون وليبيريا والكونغو ومالي والبوسنة وهايتي وغيرها. بينما غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 يظل غير شرعي، ويدخل ضمن جريمة «العدوان».

التدخل بدعوة من الحكومة الشرعية

لا يمانع القانون الدولي أن تطالب حكومة شرعية مساعدة من دولة أخرى أو مجموعة دول أو حلف عسكري، أو من الأمم المتحدة التدخل عسكريا لحماية الدولة واستقلالها وسلطتها الشرعية، بغض النظر كيف وصلت هذه السلطة إلى سدة الحكم، ما دام هناك اعتراف دولي بها. والتدخل يكون بطلب الدعم العسكري والسلاح والمال أو الوحدات العسكرية، أو القوات الخاصة، أو إرسال جيش كامل، لا فرق. وقد شهدت البلدان العربية العديد من التدخلات الخارجية لهشاشتها، وضعف بنيانها وتفتتها، واعتمادها على الغير في حماية أمنها واستفحال نظم الاستبداد المنفصمة عن شعوبها.
نحن هنا ننطلق من أرضية قانونية وليس موضوع بحثنا مدى شرعية النظام، أو الحكومة التي تسيطر في تلك اللحظة على الشعب والأرض. الشعب في ذلك البلد هو صاحب الحق الحصري في نزع الشرعية. ما لا يقبله العقل ولا المنطق ولا القانون ولا الشرعية، أن تصنف شرعية التدخل على مقاس الأيديولوجيا والمواقف السياسية، وليذهب المنطق إلى الجحيم.
التدخلات الخارجية في سوريا واليمن وليبيا
هناك ثلاث حروب (سمها ما شئت) تجري داخل حدود ثلاث دول عربية هي سوريا واليمن وليبيا. وسنحاول أن نستخدم بعض المقاييس نفسها لنصل إلى النتائج نفسها. أما الذي لا يجوز فهو استخدام المقاييس نفسها والتوصل إلى نتائج مختلفة تماما.
في الدول الثلاث هناك ثلاث حكومات معترف بها دوليا. حكومة بشار الأسد في سوريا، وعبد ربه منصور هادي في اليمن، وفايز السراج في ليبيا. وستجد بالتأكيد من يجادل بعدم شرعية هذه الأنظمة، لكن ما أود هنا طرحه مرة أخرى المسألة القانونية.
إجراءات متشابهة بالدعوة إلى التدخل:
عندما شعرت حكومة الأسد بأن المعارضة المسلحة المدعومة خليجيا وتركيا وأمريكيا وأردنيا، على وشك الإطاحة بنظامه، طلبت تدخل حزب الله للمساعدة، فدخل عام 2013 واحتل القصير، وبقي منتشرا يساعد قوات الحكومة، ثم طلب النظام الرسمي مساعدة عسكرية واقتصادية من إيران، فأسعفته بذلك منذ عام 2012. أرسلت إيران عشرات الألوف من المقاتلين للوقوف إلى جانب بشار الأسد في معركته مع ما سمي بالإرهاب، واعتبر مرشد الدولة خامئني الدفاع عن نظام بشار مسألة أمن قومي إيراني. ولما لم يتمكن لا النظام ولا حليفاه اللبناني والإيراني على السيطرة على الجماعات المسلحة، وإمارات الجولاني والبغدادي وغيرهما العشرات، قام بالاستنجاد بروسيا، فدخلت الحرب بسلاحها الأمضى، خاصة في الجو بتاريخ 30 سبتمبر 2015، إلى جانب النظام وعدلت موازين القوى تماما لصالح النظام وثبتته في الحكم. قوات حزب الله وإيران وروسيا دخلت سوريا بدعوة من الشرعية وباقي الجماعات المسلحة لم تدخل بإذن من أحد، فوجودها قانونيا غير شرعي، وكذلك القوات التركية والأمريكية والفرنسية والبريطانية والخليجية. الأمر مختلف بالنسبة لعملية «درع الفرات» التركية، ضد الجماعات الكردية المسلحة حتى من الناحية القانونية. بهذا السيناريو نفسه حرفيا، أحس الرئيس عبد ربه منصور هادي بأن الانقلاب الحوثي غير الشرعي، الذي احتل العاصمة بالتعاون مع الحرس الجمهوري للمغدور علي عبد الله صالح، قادر على احتلال كل اليمن وإسقاط الشرعية، لأنه مدعوم من إيران، طلب هادي رسميا من السعودية مساندة الحكومة الشرعية. السعودية بدورها دعت الإمارات العربية ومجموعة من الدول وشكلت التحالف العربي لدعم الشرعية، ودخل رسميا الحرب بتاريخ 25 مارس 2015 إلى جانب الشرعية. إذن دول التحالف الذي لم يبق منها إلا السعودية يعتبر وجودها شرعيا، وباقي التجمعات والميليشيات والأحزمة الأمنية والطلائع والمجالس الانتقالية، كلها غير شرعية.

القانون لا يفصّل على مزاح الأحزاب والأيديولوجيات والارتباطات والمصالح بل على أساس مسطرة القانون الواحد

والسيناريو نفسه ينطبق على حكومة الوفاق الليبية، المنشأة بموجب الاتفاق السياسي الليبي (اتفاق الصخيرات) والذي أقر في مجلس الأمن بتاريخ 23 ديسمبر 2015 في القرار(2259). القرار يعترف بحكومة الوفاق الوطني في بنده الثالث، على أنها الحكومة الشرعية المعترف بها. انشق ضابط عن الشرعية وأعلن نفسه قائدا عاما للجيش الليبي عام 2014 اسمه خليفة حفتر، وقام العديد من الدول بدعمه أولها مصر ثم فرنسا ثم السعودية فالإمارات، وأخيرا روسيا، بالإضافة إلى استجلاب مرتزقة ثبتت أعدادها وهوياتها تقارير فريق الخبراء. كل هذا الدعم الذي استمر خمس سنوات، جاء بطرق غير شرعية ومرفوضة من قبل مجلس الأمن. بعد إعلان حفتر في 4 إبريل 2019 بدء معركة «تحرير طرابلس»، ضاعفت تلك الدول دعمها لحفتر ظانة أنه سيقفل الملف الليبي سريعا، باحتلال المنطقة الغربية بكاملها. قامت الحكومة الشرعية التي يمثلها السراج بما قام به بشار الأسد وعبد ربه منصور هادي، بعقد اتفاقين أمني واقتصادي علنا وبدون سرية مع حكومة تركيا بتاريخ 27 نوفمبر 2019. تركيا كدولة ديمقراطية أخذت الاتفاقيتين للبرلمان وبعد مناقشات مستفيضة أقرهما البرلمان التركي علنا يوم 21 ديسمبر 2019. في بداية يناير 2020 بدأ النظام التركي بالتدخل العسكري إلى جانب الوفاق، فغيّر موازين القوى على الأرض. وبعد أن كانت طرابلس تتعرض للقصف اليومي الذي طال المدارس والمستشفيات والأسواق والسفارات ومطار معيتيقة المدني ونادي الفروسية ومراكز إيواء المهاجرين، وكلية التدريب بدون أن يشجب هذا التدخل، أو يتحرك أحد من الدول الداعمة لحفتر، بعد وصول المساعدات التركية التي نتجت عن اتفاقية بين دولتين شرعيتين، بدأت تلك الدول تشجب التدخل التركي، وتطالب برحيله على أنه غير شرعي.
وكما أسلفنا فالتدخل التركي في حكم القانون الدولي شرعي وتدخلات فرنسا والإمارات ومصر وروسيا كلها غير شرعية. ومن يرفض هذا المبدأ عليه أن يطبقه على كل التدخلات، فالقانون لا يفصّل على مزاح الأحزاب والأيديولوجيات والارتباطات والمصالح بل على أساس مسطرة القانون الواحد.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    شكرأ للمعلومات يا دكتور صيام

  2. يقول منصور الكبير - الجزائر -:

    تحية طيبة ،،
    كأن الأمم المتحدة أُنشئت خصيصاً للمنطقة العربية والعالم الثالث ، فعملها يكاد يقتصرعلى التدخل في هذه المنطقة فقط ، لكثرة الصراعات المسلحة التي خلفها الإستعمار قنابل موقوتة تمتد على مدى عقود من الزمن ، تدّخُل الأمم المتحدة يصبو دائما لإحلال السلام ووقف هذه الحروب تماشياً مع إرادة الشعوب في العيش في أمن وسلام ، والملاحظ أن الصراعات في الوطن العربي مثل سوريا و اليمن تحتوي على طرف شرعي و آخرغير شرعي في منظور الأمم المتحدة بإستثناء الحالة الليبية ، فهي حسب ما يبدو حالة غير واضحة ، بحيث نجد فيها الطرفين المتصارعين الإثنين يملكان شرعية في نفس الوقت ، حكومة الوفاق معترف بها دولياً من طرف الأمم المتحدة و كذلك مجلس النواب الليبي الذي يمثل الشعب الليبي بواسطة النواب المنتخبين من طرف الشعب ، والمفارقة السياسية هي أن مجلس النواب الذي يملك شرعية داخلية يرفض الإعتراف بحكومة الوفاق المعترف بها دولياً،، ألا يدعو هذا إلى التساؤل والريبة أن الحالة الليبية مفتعلة ومقصودة بفعل فاعل من أطراف خارجية ، لحاجة في نفس يعقوب .

  3. يقول جمال:

    كلام يثلج الصدر المكروب في هذا الوطن المنكوب …. ويعري النفاق الدولي الذي طالما تمرغنا في اوحاله… حرام على ابناء الوطن وحلال لكل طير جارح ….

  4. يقول Ali:

    كل الشكر للأستاذ عبد الحميد صيام على هذا الدرس الصباحي البسيط لكن كم جيد. تحياتي.

  5. يقول احمد الجزائري:

    بارك الله فيك استاذ على هذه التوضيحات لكن سؤالي هو اين دور الامم التحدة

  6. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي عبد الحميد صيام. كلام سليم لاش. السؤال طبعاً لماذا لم تتدخل الأمم المتحدة. على الأقل سياسياً (أي بنتائج وليس حبرا. على ورق) في سوريا لحماية المدنيين وفي اليمن وقبل أن يفوت الأوان في ليبيا؟ قال أمم متحدة قال!

  7. يقول ولاء سبتي:

    شكرا جزيلا أستاذ
    برأيك هل من الممكن أن تطلب الدولة المساعدة العسكرية من الأمم المتحدة نفسها وبالتلي يتم تقديم الدعم العسكري للدولة برضاها وليس قسراً وفق للفصل السابع من الميثاق؟
    إن كان ذلك ممكنا فتحت أي إطار قانوني يمكن دراسة مثل هذه العمليات؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية