نظرا لقصر ذاكرة الكثيرين، فقد ينظر البعض للانسحاب العسكري الامريكي والبريطاني من افغانستان الشهر الماضي مفاجئا او فريدا من نوعه. ولكن من يقرأ التاريخ المعاصر يكتشف ان الامريكيين لم ينتصروا في المناطق التي اجتاحوها عسكريا الا نادرا. وتنطبق هذه الحقيقة على كافة التدخلات غير المشروعة التي تقوم بها الدول ضد بعضها. فالسوفيات الذين كانوا يملكون القوة الكبرى الثانية في العالم وقتها، انسحبوا من افغانستان في 1989 بدون ان يحققوا ما ارادوا، وتكبدوا خسائر بشرية ومادية كبيرة، وألحقوا اضرارا بالبلد الذي احتلوه.
وهناك ما يشبه الاجماع على ان التدخل العسكري في افغانستان كان من اسباب انهيار الاتحاد السوفياتي في غضون عام من ذلك الانسحاب. وتتكرر التجربة لاحقا بدخول القوات الامريكية والبريطانية في ذلك البلد في إثر حوادث 11 ايلول/سبتمبر. فقد تمكنوا من اسقاط حكم طالبان وتوجيه ضربات موجعة لتنظيم القاعدة وقتل قائدها اسامة بن لادن. ولكن بعد اثني عشر عاما اصبح واضحا ان الغزاة لم يستطيعوا القضاء على العنف ولم يحققوا استقرارا لذلك البلد. صحيح ان الانتخابات الرئاسية الاخيرة تعتبر خطوة متقدمة، ولكن حركة طالبان ما تزال فاعلة وتمثل مصدر تهديد حقيقي للحكومة المركزية في كابل. ووفقا للارقام الاخيرة فقد قتلت الحركة من القوات الحكومية قرابة الخمسة آلاف. وقتل من البريطانيين خصوصا في اقليم هلماند قرابة الـ 500. اما الامريكيون فقد تكبدوا خسائر بشرية وبلغ عدد قتلاهم حوالي الفين. واصبح واضحا ان انسحابهم جاء اضطراريا وانهم لم يحققوا الهدف الاساسي الذي دفعهم للتدخل وهو القضاء على الارهاب الذي كانت افغانستان حاضنة له آنذاك. ومنذ الانسحاب بدأ الاعداد النفسي والسياسي لاعادة نشر تلك القوات في العراق، وصدرت تقارير تؤكد ان انتشار داعش في العراق وسوريا وفر لها مجالا اوسع للانتشار والتدرب وتوسيع دائرة العنف. والواضح ان الاعلام الغربي يتحاشى الحديث بتوسع حول فشل مشروع ما سمي «الحرب ضد الارهاب» التي بدأت متزامنة مع التدخل الانكلو – امريكي في افغانستان. فبعد 12 عاما تضاعف حجم الارهاب ودائرة انتشاره. فبالاضافة لكل من سوريا والعراق، اصبحت الظاهرة منتشرة في افريقيا على نطاق واسع. فليبيا تعاني من هذه الظاهرة وكذلك نيجيريا والصومال والجزائر ومصر وكينيا. ويتوقع انتشار تلك الظاهرة الى بلدان مثل السودان والجزائر والمغرب، وحتى جنوب افريقيا نظرا لوجود حاضنات للعنف.
يختلف عادة مشهد القوات المنسحبة عن الغازية كثيرا. ففيما يبدو الكبرياء والغرور على وجوه الغزاة تظهر ملامح الانكسار والهزيمة على الجنود المنسحبين. وقد سجل التاريخ ان انسحاب القوات الامريكية من فيتنام في العام 1975 حدث سريعا، وارتبك المنسحبون المذعورون وتركوا وراءهم عددا كبيرا من الفيتناميين الذين تعاونوا معهم. وقد تكبد الامريكيون في الحرب الفيتنامية خسائر بشرية كبيرة، وبلغ عدد قتلاهم 58 ألفا، بينما خسر الفيتناميون مليون ومائة الف شخص. وحين تدخل الامريكيون في لبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1982 واجهوا مقاومة شرسة بلغت ذروتها باستهداف مقرات المارينز وقتل من جنودها 258 شخصا في عملية انتحارية واحدة. وفي اليوم نفسه قتل من القوات الفرنسية 58 شخصا في عملية مماثلة، الامر الذي اضطر الامريكيين للانسحاب السريع من الاراضي اللبنانية. وواصلوا قصف بيروت وضواحيها من المدمرة «نيوجيرسي» التي كان وزن طلقتها الواحدة طنا من المتفجرات. مع ذلك لا يستطيع الامريكيون الادعاء بانتصارهم في ذلك التدخل. وتدخلوا في الصومال قبل عشرين عاما، ويسجل التاريخ ايضا ان جثت القتلى الامريكيين سحلت في شوارع مقديشو، وان قواتهم هرعت للانسحاب على وجه السرعة لتفادي المزيد من الخسائر. ثم تدخلوا في العراق وأسقطوا نظام صدام حسين، ولكنهم لم يستطيعوا احلال السلام، بل اشعلوا حروبا داخلية متواصلة بلغت ذروتها بانتشار حركة داعش واحتلالها مساحات واسعة من الاراضي العراقية. ربما كان التحالف الانكلو – امريكي يعتقد ان احداث تصدعات كبيرة في المجتمعات العربية والاسلامية سيشغل المتطرفين من جميع الاطراف بالتحارب البيني، ويتجنب الغربيون بذلك مخاطر الارهاب المنطلق من الجماعات المتشددة. ولكن الاسابيع الاخيرة كشفت ان نجاح تلك السياسة محدود جدا، وان السيف الذي يفري الرقاب بدوافع طائفية، سيصل الى رقاب الغربيين ايضا، وان الارهاب ليس له دين، ولا يمكن السيطرة عليه او احتواؤه.
التدخل العسكري قد يفيد احيانا، ولكن في حدود ضيقة، وكثيرا ما تفوق اضراره ما ينجم عنه من فوائد. وتدفع الشعوب عادة اثمانا غالية لقرارات الساسة، ونادرا ما ينجم عن تلك التدخلات انتصارات باهرة. فالحرب العالمية الثانية مثلا، انتهت بهزيمة ألمانيا، ولكن بأي ثمن؟ لقد حصدت ارواح اكثر من ستين مليون انسان وخلفت وراءها دمارا بشريا وماديا غير مسبوق، وارتكبت فيها مجازر وجرائم ضد الانسانية لا تحصى. كما كانت مسرحا لاستخدام السلاح النووي للمرة الاولى. والسؤال: هل يمكن تبرير ثمن ذلك الانتصار الباهت؟ وحدثت الحرب العراقية – الايرانية باجتياح عراقي كاسح عام 1980 واستمرت الحرب ثماني سنوات، وخلفت اكثر من نصف مليون قتيل واكثر من مليون جريح من الطرفين. ما جدوى ذلك. ثم جاء الاجتياح العراقي للكويت عام 1990، وكانت النتيجة تدخل انكلو – امريكي ادى الى حرب تكنولوجية غير مسبوقة. انسحبت القوات العراقية بعد الحرب الضارية التي تجاوزت وحشيتها التصور، في هيئة مختلفة تماما عما كانت عليه يوم الاجتياح، واثبتت ان الاحتلال لا بد أن ينتهي بهذه الصورة. اما التدخل الانكلو امريكي فلم يكن خاليا من النتائج الوخيمة، فقد أدى ذلك التدخل لصعود ظاهرة الارهاب المعاصر ابتداء بتنظيم القاعدة الذي اعلن استهدافه للولايات المتحدة بشكل خاص، وصولا الى تنامي الظاهرة بمسميات عديدة واهداف متشابهة وانتشار جغرافي جعلها «عالمية». ومن اهم محطات ذلك الصعود حوادث 11 ايلول/سبتمبر التي ادت لاستقطابات عديدة، سياسية، ودينية وايديولوجية، وحروب اخرى لا تقل ضراوة. فقد تكرر التدخل الانجلو امريكي لشن حرب على العراق في 2003 التي احدثت هي الاخرى تفاعلا لولبيا اوصل الاوضاع الى ما هي عليه الآن. صحيح ان الغربيين استطاعوا تغيير بوصلة «الارهاب» ليصبح موجها نحو داخل الامة وليس كما فعل تنظيم «القاعدة»، ولكن مع تداعيات هذا الانتشار الواسع لظاهرة الارهاب وتحولها الى منهج في التعاطي مع المختلف دينيا ومذهبيا وسياسيا فمن المتوقع جدا ان تعجز الامكانات التكنولوجية الغربية خصوصا في مجال الاستخبارات والرصد والدفاع عن منع وصول الارهاب الى العالم الغربي مجددا.
ان من المشروع جدا ان تكون لدى الدول قدرات عسكرية كبيرة بهدف الردع والدفاع عن الحدود. ولكن حين تتحول هذه القوة الى وسيلة للاعتداء على الآخرين او احتلال اراضي الغير او قمع الشعوب التي تطالب بالحقوق والاصلاح، فانها كثيرا ما تضاعف مشاكل تلك الدول وتدخلها في متاهات ومسارات ملتوية لا يلوح في نهاياتها بصيص امل، بل المزيد من الانسداد والتوجه نحو المجهول. فاستخدام القوة ضد الممارسة الديمقراطية لا يحقق الامن، وما تعيشه مصر هذه الايام من توترات داخلية واعمال عنف غير مسبوقة انما حدث نتيجة إقحام الجيش في المعركة السياسية لدعم مشروع قوى الثورة المضادة التي استاءت من سقوط حسني مبارك.
وفي عالم اليوم حيث اصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءا من اية معركة من اجل الحقوق وكشف الاختلالات في المنظومة السياسية الحاكمة، لم تعد القوة العسكرية وحدها قادرةعلى تحقيق النصر لاصحابها. فالكيان الاسرائيلي الذي يملك امكانات عسكرية هائلة لم يستطع ان يحقق لوجوده شرعية حقيقية، برغم الدعم الغربي غير المحدود. وبعد مرور ما يقرب العقود السبعة ما يزال عاجزا عن تثبيت احتلاله او كسر ارادة اصحاب الارض الاصليين.
ويعتبر مشروع «الحرب على الارهاب» واحدا من اوضح الامثلة على فشل سياسات الترهيب بالقوة العسكرية المفرطة. فقد ادت الى توسع دائرة الارهاب بدلا من تقليصها، وحولته الى تهديد مستقبلي للانسانية، واشعلت لدى الشعوب الرغبة في التحرر والانعتاق من الهيمنة الاجنبية، ومهدت الظروف لانفجارات امنية في العديد من المناطق، ولن يستغرق الامر طويلا قبل ان تحرق النار ايدي من يشعل الفتنة او يمارس الاحتلال او يسعى للهيمنة على الآخرين او يحارب الانسانية بما لديه من ادوات الموت.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
أنا معك بكل ما كتبته يا دكتور سعيد وأبصم لك بالعشرة
ولكن لماذا يا دكتور تجنبت تدخل ايران بالمنطقة وتخريبها للنسيج الاجتماعي لشعوب المنطقة عن طريق الطائفية والميليشيات ومساندة الظالم
ولا حول ولا قوة الا بالله