يغفل العالم عن التدليس المنهجي الذي تمارسه إسرائيل، ليس بسبب التواطؤ الدولي وحسب، بل بسبب الأخطاء الاستراتيجية في التعاطي العربي والفلسطيني مع حيثيات هذا التدليس!
نشرت المجلة الدولية للصليب الأحمر عام 2012 مقالا بعنوان «تحديات القانون الدولي الإنساني: سياسة الاحتلال الإسرائيلي» كتبه السيد بيتر ماورير وكان رئيسا للجنة الدولية للصليب الأحمر. ورد فيه أن إسرائيل قد مارست «السلطة الفعلية» في الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة نصف قرن تقريبا مما يجعل وجودها في هذه المناطق واحدا من أطول الاحتلالات العسكرية المستمرة في التاريخ الحديث». وأن الإطار القانوني الذي يحكم الأراضي الفلسطينية المحتلة هو قانون الاحتلال العسكري « ويتكون هذا من القواعد المنصوص عليها في لوائح لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة، والقانون الدولي الإنساني العرفي. ويوفر هذا الأخير إطارًا حاسمًا ومقبولا عالميًا وملزمًا قانونا، لضمان احترام حياة وكرامة الأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري».
تضمن العدد نفسه مقالة أخرى بعنوان «اللجنة الدولية للصليب الأحمر ووضع إسرائيل في الأراضي التي تسيطر عليها» كتبه آلان بيكر مدير معهد الشؤون المعاصرة ، وسبق له أن عمل مستشارا قانونيا لوزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية، كما أنه كان أحد أعضاء لجنة ليفي التي أصدرت تقريرا عام 2012 حول « الوضع القانوني للبناء في يهودا والسامرة». اعترض فيه الكاتب على ما يسميه «الافتراضات الأساسية» فيما يخص الوضع في الأراضي «التي تديرها إسرائيل منذ العام 1976» وقد «أصبحت لغة مشتركة مستخدمة داخل اللجنة نفسها وداخل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بشكل عام» فهو يرى أنها تنطلق من «دوافع سياسية» لأنها «غير دقيقة، وتتناقض مع المبدأين الأساسيين للجنة الدولية بوصفها منظمة محايدة وغير متحيزة»! وأن أول افتراض غير دقيق هو «وصف المناطق المعروفة تاريخيا باسم يهودا والسامرة، وقطاع غزة، والجزء الشرقي من القدس التي تسيطر عليها إسرائيل منذ العام 1967 بأنها «أراض فلسطينية محتلة» فهذا التعبير غير دقيق من الناحية التاريخية والقانونية وله دوافع سياسية واضحة»!
والحجة الرئيسية التي يعتمدها الكاتب هنا، هي أن تلك المناطق «لم تكن قط جزءا تم انتزاعه من دولة أو كيان فلسطيني لم يكن قائما بالأساس ولم توقع أي معاهدة أو اتفاق ولا صدر قرار أو وثيقة دولية ملزمة أخرى تمنح هذه الأراضي للفلسطينيين» ومن ثم فهو يرى أن تعبير الأراضي الفلسطينية المحتلة «ليس سوى مصطلح سياسي شاع استخدامه بشكل مستمر في قرارات سياسية غير ملزمة، بشكل رئيسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة» وأنه «لا يعدو كونه رؤية سياسية لأغلبية الدول التي صوتت لصالح تلك القرارات»! لينتهي إلى أن هذا التعريف متحيز ومتعسف ومضلل لأنه ينكر «الحقوق المتعلقة بالمناطق محل النقاش» كما أنه يعد «تقويض أو محاولة الخروج بنتائج مسبقة على عملية التفاوض الجارية على أساس الاتفاقيات السارية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية للاتفاق على الوضع النهائي لتلك المناطق».
يغفل العالم عن التدليس المنهجي الذي تمارسه إسرائيل، ليس بسبب التواطؤ الدولي وحسب، بل بسبب الأخطاء الاستراتيجية في التعاطي العربي والفلسطيني مع حيثيات هذا التدليس!
وهذه الحجج تتطابق تماما مع ما ورد في تقرير لجنة ليفي التي انتهت إلى أنه «من وجهة نظر القانون الدولي لا يمكن اعتبار قوانين «الاحتلال» الكلاسيكية كما هي منصوص عليها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة قابلة للتطبيق على الظروف التاريخية والقانونية الفريدة والتي لا نظير لها لوجود إسرائيل في يهودا والسامرة» وأن ما جرى في الضفة الغربية والقدس الشرقية في العام 1948 هو إعادة الوضع القانوني للإقليم إلى وضعه الأصلي كما ورد في صك الانتداب على فلسطين في العام 1922 بوصفه الأراضي المخصصة لتكون بمثابة الوطن القومي للشعب اليهودي كما جاء في وعد بلفور، وأنه احتفظ بحق التملك هذا خلال مدة «السيطرة الأردنية» بين عامي 1948 و 1967، قبل أن «يستعيد» تلك الأراضي التابعة له، ومن ثم «ووفقا للقانون الدولي، يتمتع الإسرائيليون بالحق القانوني في الاستيطان في يهودا والسامرة، وبالتالي، لا يمكن اعتبار إنشاء المستوطنات في حد ذاته غير قانوني». وطبعا لم يقل لنا تقرير ليفي لماذا انسحب الإسرائيليون من غزة في العام 2004 ما دامت غزة كانت «تحت السيطرة المصرية» واستعادتها إسرائيل في العام 1967 وفقا للحجة نفسها!
ولا يمكن التعاطي مع هذه الحجج المقدمة سوى على أنها تدليس محض، لا يصمد أمام أي مراجعة قانونية، دون الدخول في سجال تاريخي! فصك الانتداب على فلسطين، ولننتبه إلى الاسم، يتحدث عن وضع «فلسطين التي كانت تابعة للدولة العثمانية» بالحدود التي اتفق عليها الحلفاء. ويتحدث عن سن قانون للجنسية (يسهل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاما دائما لهم) والأهم أنه في حال نهاية الانتداب «يتخذ مجلس عصبة الأمم ما يراه ضروريا من التدابير لصون استمرار الحقوق المؤمنة بموجب المادتين 13 و 14» وهما المادتان المتعلقتان بالحقوق والادعاءات المتعلقة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين. وهذا يعني أنه وفقا لصك الانتداب الذي يحتج به الإسرائيليون، فان الجمعية العامة، هي المخولة بذلك!
أما فيما يتعلق بقرارات الجمعية العامة التي يحتج الإسرائيليون بأنها قرارات سياسية غير ملزمة تمثل الرؤية السياسية للدول التي تصوت على القرارات، فهم ينسون أن قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947 الذي أنشأ إسرائيل من الأصل، كان قرارا صادرا عن تلك الجمعية، وأن القرار رقم 273 عام 1949 بقبول طلب دولة إسرائيل الدخول في عضوية الأمم المتحدة كان بقرار من الجمعية العامة نفسها، وهذان القراران هما مصدر قانونية وجود إسرائيل نفسها، لكنهم يعدون توصيفها للأراضي الفلسطينية المحتلة توصيفا «سياسيا» غير دقيق!
وكما هو واضح، فإن الحجاج الإسرائيلي يتعامل مع القرار رقم 181 بانتقائية، فهو يستند إليه في تقرير قانونية وشرعية دولة إسرائيل، لكنه يغفل أنه قد قرر إنشاء دولة عربية/ فلسطينية أيضا، وأنه يمثل وثيقة دولية ملزمة تمنح هذه الأراضي للفلسطينيين، ولا وجود لأي وثيقة قانونية يمكن تفسيرها أو تأويلها بأنها نقضت القرار الأخير!
أما الاحتجاج بأن وصف «الأراضي المحتلة» يتعارض مع اتفاقية أوسلو نفسها، وأنه بمثابة تقويض أو محاولة الخروج بنتائج مسبقة حول الوضع النهائي للضفة الغربية والقدس الشرقية، فهو احتجاج لا قيمة له، لأن الاتفاقية نفسها تحدثت عن تسوية نهائية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338، وأن الترتيبات الانتقالية والمفاوضات حول الوضع النهائي، هدفها تطبيق هذين القرارين. ومراجعة القرارين، تكشف عن أحكام أساسية؛ فالقرار 242 أكد أولا على «عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب» وعلى «سحب القوات المسلحة من الأراضي التي احتلتها في النزاع» وعلى «تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين»! والقرار 338 بدوره أكد على «تنفيذ القرار 242 بجميع أجزائه» ودون انتقائية!
كاتب عراقي